القدّيس توما البيثيني
نشأ القدّيس توما في جوار جبل كيمينا في بيثينيا لعائلة تقية. جبل كيمينا كان في ذلك الزمان مركزًا رهبانيًّا عامرًا وهو قريب من جبل الأوليمبوس، جبل الرهبان االمميذز قبل ازدهار جبل آثوس. كان والد توما يتردّد على الرهبان ويأخذ ولده معه. وهكذا تسنّى لتوما أن يطّلع على المبادىء الأوليّة للحياة الرهبانيّة وانطبعن في نفسه صورة الرهبان فأخذ يقتدي بهم وحفظ كتاب المزامير عن ظهر قلب، وفي الوقت المناسب انضمّ إليهم.
وحدث أن واحدًا من أغنياء القسطنطنية شاء أن يشيد ديرًا لمجد الله وخلاص نفسه، فاستطلع رأي أسقف تلك الناحية في راهب مجدّ يصلح لأنّ يكون رئيسًا لهذا الدير. وكان أن أوصى الأسقف بتوما.
اهتمّ توما بقطيع الرهبان، في الدير الجديد، زمنًا وقد إزداد قسوة، في النسك، على نفسه قدوة في الهدوء والتواضع. وكان توما يتوارى بحيث لا يدري أحد بأمر جهاداته. وأخيرًا خشي على نفسه وخلوته فعيّن للإخوة الذين في الدير رئيسًا بدلاً عنه وانصرف غلى عزلته. ولكن لم يلبث تلاميذه ان لحقوا به وأعادوه إلى ديره بعدما وعدوه بقلاية منعزلة يتسنى له أن يجمع بين الخلوة وإرشاد الأخوة دون سائر اهتمامات الدير.
منّ الله عليه بصنع العجائب والتنبؤ بالمستقبلات، فصر الناس يأتون إليه يلتسون مشورته والتعزية والشفاء. ولمّا إزداد إقبال الناس عليه قام وانصرف إلى مكان قفر. ولم يعد ينزل إلى الدير إلاّ إذا كان أحد الأخوة بخطر. على هذه الحال استمرّ إلى أن رقد بسلام في الربّ.
القدّيسون الشهداء ميناس وهرموجانيس وأفغرافوس
ليس واضحا متى تمّت شهادة هؤلاء القدّيسين الثلاثة. قيل في زمن الأمبراطور الروماني يوليوس مكسيمينوس الذي تولّى الحكم لفترة قصيرة بين العامين 235 و238 للميلاد. وقيل أيضا في زمن الأمبراطور مكسيميانوس هرقل الذي تبوأ العرش الروماني وزميله ذيوقليسيانوس بين العامين 285 و305 م.
أنّى يكن الأمر فأن ميناس. كما ورد في التراث، رجل أثينائي وصف ب”الرخيم الصوت” او “الحسن النغمة” لفصاحة لسانه وحسن منطقه. حصلت في أيامه انقسامات سياسية بمدينة الإسكندرية وحقّق المسيحيون نجاحات ملحوظة في نشر الإنجيل بين السكان فيها. ولما كان ميناس أحد مستشاري الأمبراطور فقد أوفده هذا الأخير لمعالجة الخلافات السياسية الحاصلة وضرب المسيحيين في المدينة وملاحقها.
ميناس، من ناحيته، كان مسيحيا متخفيا. لم يجاهر بمسيحيته، إلى ذلك الزمان، لأنه لم يكن قد أدرك بعد أن ساعته قد جاءت ليتمجّد ابن الله فيه.
توجّه ميناس إلى الإسكندرية وعالج صعوباتها بالحسنى، فتمكن، بما أوتي من حكمة ودراية، من تهدئة الحال وإصلاح الأمور. هذا على الصعيد السياسي. أما وضع المسيحيين فلم يشأ ميناس أن يعالجه وفق رغبة الأمبراطور. فقد أيقن أن ساعة الإعتراف بالمسيح قد حانت. وهكذا بدل أن يقمع المسيحيين أطلق يدهم وشجّع على نشر كلمة الإنجيل. وقد ذكر أن الرب الإله أجرى على يديه آيات جمّة علامة للرضى الإلهي عن هذا العمل المبارك وتأكيدا لصدقية البشارة وقوتها. ويبدو أن الوثنيين في المدينة أخذت كلمة الخلاص بمجامع قلوبهم وأدهشتهم أعمال الله بحيث أن كثيرين منهم نقضوا هيكلهم وانضموا إلى الكنيسة.
ولم تلبث أخبار الإسكندرية والجوار أن بلغت أسماع الأمبراطور الروماني فخشي على مصر أن تتحوّل بأكملها إلى المسيحية. وإذ رأى في ما كان يجري فيها تهديدا لحكمه وتآمرا عليه. أوفد، على جناح السرعة، رجلا اسمه هرموجانيس، موثوقا لديه، ليرد ميناس إلى صوابه، لو أمكن، أو يعمد إلى تصفيته وتصفية المسيحيين ويعيد الأمور، من ثم، إلى نصابها.
هرموجانيس كان أيضا من أثينا. لم يعرف المسيح لكن الوثنية لم تفسده. كان مستقيما عادلا طيبا وموظفا أمينا، لكنه، في جهله، ظنّ أن من حق الأمبراطور عليه أن يكون مطيعا له. تصرّف، أول أمره، كأي عامل ملكي ينفّذ الأوامر ويفرض أحكام قيصر. وما أن انكشفت الحقيقة لعينيه، على غير ما كان يتصوّر، حتى اهتدى ، فكان له موقف آخر.
دخل هرموجانيس مدينة الإسكندرية بمواكبة عسكرية مهمة. وأول ما فعله أن ألقى القبض على ميناس وأودعه السجن. ثم أوقفه أمامه للمحاكمة بعد أيام بحضور جمهور من الناس.
أجاب ميناس على اتهام هرموجانيس له بأنه تمرّد على قيصر فأكد ولاءه له في كل شأن من شؤون الحكم والإدارة المدنية والعسكرية الاّ ما له علاقة بعبادة الله، خالق السماء والارض. ميّز بين ما هو لله وما هو لقيصر، الأمر الذي لم يكن مألوفا يومذاك، لا بل كان يعتبر خطرا على تماسك الدولة ووحدتها. الفكرة كانت أن من يخضع لقيصر يخضع لآلهة قيصر. الموضوع كان جديدا على هرموجانيس . المطلوب، بالنسبة إليه، كان الطاعة لقيصر. قضية الأوثان، بحد ذاتها، كانت ثانوية لديه.
واستطرد ميناس فسرد بثقة وهدوء كيف أن الله لم يكف عن إظهار عجائبه به، أي بميناس، منذ أن ألتزم البشارة بكلمة الخلاص .وفيما كان ميناس يعرض تفاصيل بعض ما جرى له، أخذت أصوات من بين الحضور ترتفع مؤكدة صحة ما يقول. وإذا احتدّت المشاعر في المكان وبان كأن الاجتماع على وشك أن يتحول إلى تظاهرة مسيحية انفضّت الجلسة إلى اليوم التالي.
في اليوم التالي، أتيّ بالقدّيس في محضر الناس وجعل هرموجانيس أمامه آلات التعذيب راغبا في أستعمال لغة غير اللغة التي استعملها في اليوم الفائت عسى ميناس، بالتخويف، أن يعود إلى طاعة قيصر كاملة غير منقوصة. وما أن أتصل الكلام الذي كان قد انقطع البارحة حتى بدا لهرموجانيس لأن منظر الآت التعذيب لم يغيّر شيئا من موقف ميناس. إذ ذاك أيقن أن لغة الكلام وحدها لا تنفع، فأشار إلى الجلاّدين أن يعذّبوه، فحطموا كعبيه وفقأوا عينيه وقطعوا لسانه وأعادوه إلى سجنه على أمل إلقائه للوحوش في اليوم التالي.
موقف ميناس أثناء التعذيب كان لافتا. فرغم الآمه التي من المفترض أن تكون مبرّحة بدت نفسه في سلام. لم يتلوّ بمرارة ويأس كما أعتاد هرموجانيس لأن يعاين السفلة والمجرمين يفعلون وهو تحت التعذيب. كأنما كانت في نفس ميناس قوة لم ينجح التعذيب، على قسوته، في النيل منها. وذاك الوجه الذي فاض نورا على ما ارتسم عليه من ألم إنطبع في وجدان هرموجانيس، فحسب موقف ميناس بطولة تستحق الثناء.
وبات هرموجانيس على انطباعات من هذا النوع.
اما ميناس الملقى في السجن فجاء إليه الرب يسوع شخصيا أثناء الليل وعزّاه ومسّ جراحه فعاد صحيحا.
وأطل الصباح ودبّت الحركة، فأرسل هرموجانيس في طلب ميناس. كان يظنّ أنه قد مات، لكنه رغب، لإحساسه بالرجولة، آن يجمع الناس ويثني على بطولة ميناس في مواجهة التعذيب والمعذّبين. وكم كانت دهشته فائقة حين وقف ميناس لديه سليما معافى وكأن جسده لم ينل ما ناله البارحة. إذ ذاك أدرك هرموجانيس أنه عظيم الإيمان بالمسيح وعظيم إله المسيحيين فآمن وجاهر بإيمانه أمام الشعب، ثم اعتمد، وقيل تسقّف على الإسكندرية بعد معموديته بوقت قصير.
في تلك الأثناء كان الأمبراطور ينتظر أخبارا طيبة من عامله في الإسكندرية، فإذ به يتلقى خبر ما حدث فيها فطار صوابه وقرّر أن يتوجه إلى هناك بنفسه لمعالجة الأمر بطريقة مضمونة.
وكان أن خاب القيصر، في الإسكندرية، أشدّ الخيبة إثر وقوف ميناس وهرموجانيس لديه. دفاعهما أفحمه وزاده غيظا فعذّبهما إلى أن قطع هامتيهما.
أما أفغرافوس الذؤي قيل إنه كان كاتبا لقيصر، أو ربما للقدّيس ميناس نفسه، فاجترأ، بعد كل ما عاين وسمع، أن يقف أمام الأمبراطور الهائج ويرسم على نفسه إشارة الصليب ويجاهر بإيمانه بالمسيح. فما كان من قيصر سوى أن أستلّ سيف أحد حرّاسه وضربه به فقتله.
هكذا أكمل الثلاثة شهادتهم للمسيح فأحصتهم الكنيسة المقدّسة معا في هذا اليوم المبارك، ولكن بقي في الذاكرة أن ميناس كان أبرزهم.
هذا وقد جرى نقل رفات الثلاثة إلى مدينة القسطنطينية، في القرن الخامس للميلاد. ولكن يبدو، على الأقل، أن رفات القديس ميناس فقدت ردحا من الزمان إلى أن تمّ الكشف عنها من جديد في أيام الأمبراطور البيزنطي باسيليوس الأول (867 -886 م).
القدّيس جميلوس
لما شاء الأمبرطور يوليانوس الجاحد ان يعبر بمدينة انقرة في آسيا الصغرى، اعترضه مواطن تقي اسمه جميلوس أثارته مباحات يوليانوس وإساءاته للمسيحيين، وقرّعه على أعماله، فكانت كلماته جارحة، أقسى على قيصر من السهام، ردّة فعل الأمبراطور الأولى كانت الدهش لأنّه ما كان ليخطر بباله أن يتجرّأ عليه أحد من الناس البتة. وما أن عاد إلى نفسه حتّى تحوّل استغرابه غيظًا فأمر به جنده فأخضعوه لعذابات مرّة، وبالرغم من كلّ العذاب الذي لقيه لم يتزعزع عن إيمانه بالربّ يسوع، فأمر بصلبه فأسلم القدّيس الروح، ويبدو أن أتقياء اختلسوا جسده وواروه التراب بإكرام جزيل.
الطروبارية
+ إن شهداء المسيح، إذ إنهم أماتوا بالإمساك وثبات الأهواء المحرقة وحركاتها، نالوا نعمةً ليطردوا أسقام المرضى، ويصنعوا العجائب أحياءً وبعد الموت.فبالحقيقة إنه لعجبٌ مستغربٌ، أنَّ عظاماً مجرَّدة تفيض الأشفية، فالمجد لإلهنا وحده.