البطريرك الشَّاهد
† المطران غطَّاس هزيم
السنة 1920… وُلِدَ حبيب أسعد هزيم (البطريرك أغناطيوس الرابع)، لعائلة فقيرة بالمال، غنية بالإيمان والأخلاق: الكذب ممنوع، وكذلك الكلام البطّال والحلف والشتم والسباب والتدخين والشراب المُسكِر. العادات اليومية هي الصلاة وقراءة الكتاب المقدس وسِيَر القديسين والشِّعر، وكل ما هو مفيد. هذا هو الجوّ الذي فرضَه المعلّم أسعد (والد البطريرك) في البيت، الذي كان مجاوراً للكنيسة، التي كان الأب (أسعد) فيها هو أوّل الحاضرين والمرتلين، وهو القارئ الأول. وأَذكرُ جيّداً أنّ قراءتَين من الصلوات كانتا مخصَّصَتَين للمعلّم أسعد: “إذ قد رأينا قيامة المسيح”، و”الآن تطلق عبدك أيها السيّد بسلام”. وأَذكُر أنّ الثانية منهما هي أوّل ما قاله عند سماعِه نبأ انتخاب غبطتِه (ابنِه) بطريركاً.
يقول غبطتُه عن انتمائه إلى الكنيسة: “كنّا نعيشه (أي الانتماء) بكل سعادة في العائلة. فالكنيسة “كَوَّنَتْنِي”، من خلال ما كان يحدث فيها يوماً بعد يوم، ومن خلال ما كانت عيناي، وأنا كطفل، تريانه وتشهدانه”. أمّا عن الكتاب المقدس، وهو أول ما قرأَهُ عندما أتقن القراءة في السادسة من عمره، قال: “كنتُ أشعر به أنّي منخرطٌ في حضورٍ حقيقي”. كان ممّا يطيب له، اللجوءُ إلى الأماكن الهادئة للتأمل بأحداث الكتاب، معلّلاً ذلك بالقول: “كونه كان يدخلني إلى عالم المؤمنين”.
هذا الجو، طبَع شخصية المثلث الرحمة البطريرك أغناطيوس. كانت مسيرةُ حياته طريقَ جلجلة منذ وصوله إلى بيروت تلميذاً. هناك كانت الصدمة الأولى بالاستقبال القاسي مِن قِبَل مطرانها، إذ طرده بسبب لباسه القروي. وفي المحاولة الثانية قبله على مضض. في بيروت، عُومِل أغناطيوس بدونيّة، حتّى أنّ طعامه كان مختلفاً عن طعام الآخرين. ثم واجه صعوبة في أن يُكمل تحصيله العلمي غير الإكليريكي، إذ تذرّع المطران بفكرة بالية هي أنّ لا لزوم للإكليريكي في تحصيل العلوم. لكن بعد المعاناة والإصرار، أنهى أغناطيوس البكالوريا: قسم الفلسفة من (I.C)، وانتسب إلى الجامعة الأميركية بمنحة من رئيسها. وما لفتني في حديثه عن الجامعة أنّه قال: “عندما سُئلتُ إذا ما كنتُ راضياً عن الجامعة الأميركية، أجبتُ بلا. وقد شرحتُ في الإجابة عن السؤال عن عدم رضاي هذا بأنّني لا أفهم لماذا لا يُذكر اسم السيّد المسيح في صلوات السَّحَر”.
مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، أتمّ دراسته الجامعية، ورُسم شماساً في العام 1946. وبنصيحة من صديقه جورج خضر (فيما بعد المتروبوليت)، قصَد الدراسة في معهد القديس سيرجيوس للّاهوت في باريس (St. Sergius Orthodox Theological Institute). وهناك، لعدم حصوله على منحة، اضطُرَّ إلى استئجار غرفة بسيطة في فندق متواضع، وفي بعض الأحيان كانت هذه الغرفة من دون نوافذ، لأن المطران قطع عنه “معاشَه”. كان أغناطيوس في ضائقة مادية، اضطرته أن يغسل ثيابه بيديه كي يلبسها نفسَها في اليوم التالي. تغلّب على الظروف وعمل باجتهاد لتأمين معيشته، فدرّس اللغةَ العربية، وخَدَم في الكنيسة اليونانية. وكان يقضي معظم وقته في المكتبات والمؤتمرات العلمية والندوات الثقافية؛ ملتزماً الصلوات، التي كان يقيمها باليونانية والروسية. ثم انتقل إلى إنكلترا لمتابعة الدكتوراه، التي نالها في العام 1953. اقتُرح عليه أن يبقى في إنكلترا مُدرِّساً، فلم يقبل، وعُرضتْ عليه الجنسية الفرنسية فرفضها أيضاً، إذ كان هاجسه مُمثَّلاً بقوله: “كنتُ أشعر بواجب البقاء في المشرق وفي كنيستي… أن أضع ذاتي هناك في الخدمة، كما كان مُنتَظراً منّي”.
كانت سيرة حياته “كحياة القديسين، لِمَا واجهَهُ من تحديات وصعاب” وفق ما قاله صديقه له المطران جورج (خضر) عندما زارَه يوماً في مستشفى الروم. في أوّل زيارة للمطران خضر إلى المقر البطريركي في البلمند، بادرتُه بالسؤال: ماذا تقول في صديق عمرك وجهادك؟ أجاب: “البطريرك أغناطيوس كان راهباً حقيقياً، اختار الفقر والبساطة… بساطة “ابن الضيعة” في عيشه. لم تُغْرِهِ باريس بكل بهرجتها، إنما حافظ على بساطته في الفكر والتعبير والحياة، هو القادر في علمه وثقافته على مقارعة أكبر الفلاسفة”.
عاش بطريركنا راهباً في نمط حياته، إذ التزم الطاعة، فأطاع الكنيسة مع أنّه هرب دوماً من الرسامة مؤثراً البقاء في الظلّ. هكذا كان جوابه دوماً، إذا ما فاتَحه المطران بموضوع الرسامة الكهنوتية: “يا صاحب السيادة، أُفضّل أن أبقى شمّاساً كما أنا، وأن يكون حجم عملي أقلّ ما يمكن حتّى أُنجزه بشكل أفضل”. لكنّ رغبتَه تلك لم تُؤخذ في الاعتبار، وتَدرّج في مراتب الكهنوت المُقدَّسة حتّى كرسي البطريركية.
عاش بطريركنا فقراً طوعياً، وهو في أسمى المراتب الكنسية. عاش ذلك الفقر طيلة حياته، في طعامه ولباسه وتصرفاته وتعامله مع الناس، عاشَه في العفة يداً ولساناً، في عدم اشتهاء القنية… كان مترفّعاً عن الماديّات، فقال في شأن المال: “سعيتُ دائماً لأن لا يلامس قلبي، مقتنعاً بأنّ ما يعطيه الناس للكنيسة يجب أن يرجع إليهم”.
الهدية التي تُقدَّم إليه لم تكن له، إذ كان يقدّمها هديةً لغيره دون أن ينظر إليها. حدّثني سيدنا سابا (إسبر) بهذا: “قُدِّمَتْ إلى البطريرك أغناطيوس هديّة، فأعطاني إياها للحال. وعندما تفحّصتُها وجدتُ أنّها ثمينة جداً، فقلتُ في نفسي: ربّما أعطاني إياها سيّدنا من دون أن يعلم قيمتَها! وفي اليوم التالي أطلعتُه على الأمر، فقال: غير مهم، فهي لك”. حوادث كثيرة كمثل هذه تُروى عن غبطته. سألتُه يوماً في هذه المسألة، فقال: “ما لستَ بحاجة إليه، تنشغل به فتُصبحُ عبدَه”. إذن، العِبرة عنده هي أنّ الأشياء في الغاية من استخدامها لا في اقتنائها أو قيمتها المادّية. كان رجلاً حُرّاً بالحقيقة: عَرَفَ الحقَّ فَحُرِّرَ به. أمّا في نقاوته، فإن حياته ذاتها تشهد له، لكنني أَنقلُ، للتاريخ، ما قالَه سيدنا جورج (خضر) عندما جلسنا مرّة لتناول الغداء في البلمند: “أَنا أَشهدُ أنّ البطريرك أغناطيوس كان عفيفاً طاهراً. كنّا إذا ما تحدّثنا في أمور معيّنة، بدا جاهلاً بها خجولاً منها… أَنا أَشهدُ له”.
إذا ما استرسلتُ في سرد الصعاب التي واجهَها في بيروت والبلمند واللاذقية، ربما احتجتُ مجلّداتٍ لحصرها. تسلّم مسؤولية البلمند، وكان الأخير “خربة”، فقال مجيباً البطريرك ثيودوسيوس السادس: “حيث تنقص بُنىً صلبة، سأبنيها أنا!”. في البلمند، قاسى الجوع والعوز جسداً، والإداناتِ والنميمةَ نَفْساً، لكنّه لم ينثنِ، وبنعمة الله تركَ البلمندَ عامراً: يضمُّ مدرستَين، ومعهداً للّاهوت، وجامعة، ومَقرّاً بطريركيّاً… والأَهم أنّه جعله قِبلة أنطاكية. أمّا اللاذقية، فقد دَخَلَها وهي منقسمة، وخرج منها مُوحَّدة. وحينما جلس على كرسي بطريركية أنطاكية أَلفاها مُجرَّحة مصدّعة، فرَأَبَ الصّدعَ ولَحَمَ الجِرَاح. واجه بطريركُنا أَزمةَ الحرب اللبنانية بحكمته، ولعب دوراً موَفِّقاً بين الأطراف المتخاصمة، فسُمّي عن جدارة “بطريركَ الوفاق”. أَدمتْهُ الحربُ السورية، فرَحَل وفي قلبه حسرة منها.
أُكرر على نفسي دائماً تعليمَه في رتبة الأسقفية: “ما عشتُه وتعلَّمتُه، بالأخص في عائلتي، هو الخدمة. فكوننا فقراء، لم يكن أَحدٌ يخدمنا، بل على العكس كنّا نحن مَن نخدم الآخرين. هكذا، ليس مِن الصعب أن أعتبر نفسي خادماً لشعبي وكنيستي على الدوام. كانت قناعتي العميقة أنّ عليّ أن أكون خادماً للآخرين، رافضاً أن أكون مخدوماً، ذلك على مثال المُعلِّم الرب يسوع”.
رحَل سيدُنا جَسَداً، لكنّ إرثَه المكتوب يبقى بحراً، لنا أن نغوص فيه، مستكشفين دُرَرَهُ وكنوزَه الفكرية المشبعة باللاهوت الأنطاكي المشرقي، المتشرّب من فكر الآباء القديسين، فهو ذخيرة نبويّة رؤيويّة تخاطبنا اليوم كي نستزيد منها ونتأمل فيها… فليكن ذكره مؤبداً.
الذكرى الثامنة لرحيله 2020