القدّيس بوبليوس
كتب سيرته ثيودوريتوس أسقف قورش بعدما سمع عنه تلاميذه. من بلقيس (زيفغما) على نهر الفرات. كان جميل الخليقة وكانت نفسه في مستوى طلعته. من طبقة الأشراف. بنى لنفسه كوخاً صغيراً على مرتفع يبعد عن بلدته بضعة كيلومترات. وكان قد باع كل ما يملك ووزّع ثمنه على المعوزين. شيء واحد احتفظ به: خدمة الذي دعاه. صار يفحص ليلاًَ نهاراً كيف ينمي هذه الخدمة. كان يعمل باستمرار. لم يشاهده أحد أثناء النهار يأخذ قسطاً من الراحة. كانت الصلاة عنده تلي الترنيم والترنيم يلي الصلاة وتلي كليهما قراءة الكتب المقدّسة. اهتمّ بالغرباء. أضحى مثالاً للفضيلة. جذب إليه العديدين. رغبوا في سيرة كسيرته. كان يبني لهم قلالي صغيرة متلاصقة. لم يسمح لأحد، أول الأمر، أن يسكن معه. كان كل واحد من تلاميذه منفرداً. أخذ على نفسه أن يتفقّد القلالي بتواتر. لم يكن يسمح لأحد بأن يأكل أو يشرب أو ينام حتى الشبع. فقط ما كان لازماً للإستمرار في العيش. وكان يدقّق في ذلك. جاءه بعض الإخوة وطلبوا منه أن تكون لهم عيشة مشتركة.
تبنّى الفكرة لأنه رأى فيها مجالاً لتحريض الإخوة، أحدهم الآخر، بالمثال الصالح، على الفضيلة، وكان يقول:”إذا اتّخذ كل منا من الآخر ما ينقصه هو، تصبح فضيلتنا جميعاً كاملة. حينئذ نشبه التجّار في المدينة، فإن الواحد منهم مختصّ ببيع الخبز وغيره الخضار، هذا يخيط الثياب وذاك يصنع الأحذية. وعندما يشتري كل منهم من الآخر ما يلزمه تصبح الحياة أكثر سعادة. فبائع الثياب يشتري هو بدوره حذاء، والذي يشترى الخضار يبيع هو بدوره الخبز. وعلى هذه الصورة ينبغي لنا أن نتبادل فيما بيننا الشيء القليل من الفضيلة التي نكون قد حصّلناها”. كان القادمون الأوائل إلى بوبليوس يتكلّمون اليونانية. فما أن انقضى على ذلك زمان قليل حتى أتى إليه قوم يتكلّمون لغة البلاد، أي السريانية. وطالبوه بضمّهم إلى قطيعه وإشراكهم في تعاليمه المقدّسة، فقبل ملتمسهم وابتنى لهم مقرّاً بجانب مقرِّه. ثم هيّأ للمجموعتين كنيسة وفرض عليهما أن يجتمعا في مطلع النهار ونهايته ليصلّيا معاً. وكان كل فريق يتناوب الترنيم بلغته. فلما انتهى جهاد بوبليوس، حوالي العام 380 م، وغادر إلى ربّه، خلفه على رأس الفريق اليوناني ثيوتكنس وعلى رأس المتكلّمين بالسريانية أفتونوموس. وقد سلك الجميع بأمانة وتناغم كما أوصاهم.
أبينا الجليل في القديسين غريغوريوس اللاهوتي
نشأ قديسنا وترعرع في مدينة صغيرة اسمها نزينزة في عام 329 م، أبوه القدّيس غريغوريوس الشيخ والذي أحب الفقير حبا جما، اما أمه القدّيسة نونّة، فكانت زينة النساء المسيحيات، تسنى لغريغوريوس الذي نشأ في بحبوحة ، ان يحصّل من العلم والثقافة القدر الوافر، ثم انتقل إلى قيصرية الكبّادوك حيث التقى القدّيس باسيليوس الكبير الذي أضحى، ربيب عمره وأليف نفسه. ترك قيصرية فلسطين إلى الإسكندرية، ثم إلى أثينا والتقى من جديد باسيليوس وتابعا الدراسة سويّة.
جمع الصديقين في أثينا همّ واحد: محبّة الله ثم محبّة البلاغة والأدب والفلسفة. نبذا الغنى ، لم يكن للحسد مكان فيهما.
بقي غريغوريوس في أثينا إلى سن الثلاثين تقريبا، ثم عاد إلى نزينزة، وحده الله أضحى له الكل ووحده اللاهوت أضحى المتعة. وصار يعيش كما لو كان خارج العالم، ولا حديث له يستهويه إلاّ إلى ربه. وانتقل غريغوريوس إلى إيبورة، حيث أقام قرابة السنتين، وكان يسهر ويصوم ويصلي ، ودرس الكتب المقدسة ورنّم المزامير.
وبعد موت والد القدّيس غريغوريوس حدث ما شكّل له صدمة حين أمسكوه وحملوه إلى الكنيسة حملا وألزموه ان يصير كاهنا، فرضخ للأمر الواقع الذي أسماه “عمل استبداد روحي”. بقي غريغوريوس في نزينزة ما يقرب من السنوات العشر يعمل بصمت وحلت به خلالها محن قاسية، كما حلّت النكبات الطبيعية بنزينزة، وانحطت المدينة ككل وهدّد الحاكم بهدمها بالكامل. فوعظ غريغوريوس وشدّد ولم ينفّذ الحاكم تهديده، وامام ضغوط الأحداث لم يجد لنفسه مهربا إلا الخلوة والهدوء.
وغادرغريغوريوس إلى سلفكية إيصفرية حيث بقي ما يقرب من السنوات الأربع كما لو كان في مقبرة منعزلا عن العالم.وعندما قتل الأمبراطور الآريوسي فالنس ولاحت في سماء الكنيسة تباشير فجر جديد، وبعد سنة رقد القدّيس باسيليوس الكبير، وكلا الحدثين حملا غريغوريوس على العودة إلى أرينزة.
إثر وفاة فالنس الأمبراطور تلحلح الوضع الكنسي وتنفّس الفريق الأرثوذكسي الصعداء، ولم يجد غريغوريوس كنيسة واحدة يلتقي فيها المؤمنين، ففتح له أحد اقربائه داره، فحوّل أحدى القاعات فيها كنيسة دعيت “كنيسة القيامة”. في هذا المكان ، تفوّه قدّيسنا بخطبه اللاهوتية الخمسة الشهيرة، تلك التي أهّلته للقب “اللاهوتي” إنقلب الهراطقة عليه وسعوا جهدهم للتخلّص منه، لكنه صمد وثبت. وقد دفع فيما بعد الحسّاد أحد الرجال إلى محاولة قتل غريغوريوس فلما كان على وشك تنفيذ جريمته انهار واعترف تائبا.
سنوات قدّيسنا الأخيرة من حياته قضاها في أرينزة يكتب الرسائل والشعر ويدافع عن الإيمان من وقت لآخر، ويتابع، بأمانة، الصلاة والممارسات النسكية قدر طاقته. كان أحيانا يغور في أحد الكهوف ينام على المسوح ويصادق الحيوانات. وقد أوصى بكل ما بقي له للفقراء. أما وفاته فكانت في السنة 389 او 390 م عن عمر ناهز الستين.
الطروبارية
+ إنَّ المزمار الرِّعائي لتكلُّمِكَ في اللاهوت، قد قهر أبواقَ الخطباء وغلبها، فبما أنك التمستَ أعماق الروح قد أُضيف إليكَ حسنُ النُّطق، أيها الأب غريغوريوس، فتشفَّع إلى المسيح الإله أن يخلِّصَ نفوسنا.