القدّيس يوحنا الروسيّ
وُلد يوحنا في قرية من قرى روسيا الصغرى ونشأ على التقوى ومحبّة الفضيلة. لما بلغ الحادية والعشرين طُوِّع في عسكر القيصر واشترك في الحرب الروسية التركية التي استمرّت من العام 1672 وإلى العام 1681م.
وقع يوحنا أسيراً في يد التتار وبيع عبداً لأحد قادة الفرسان العثمانيّين، المدعو الحاج حسن آغا الذي كان يقطن في بروكوبيو في آسيا الصغرى، وهي مدينة قريبة من قيصرية الكبّادوك.
كانت بروكوبيو معسكراً للأسرى المسيحيّين المجنّدين للحرب والمعروفين بـ “الانكشارية”. فعاش يوحنا في وسط معاد عرضة، بصورة دائمة، لتعييرات الأتراك وإزعاجهم. كانوا ينادونه “يا كافر” ويحرّضونه على تغيير دينه. كثيرون من أقرانه جحدوا إيمانهم، أما هو فقاوم إلى النهاية. كان سيّده يضربه ويهينه ويشدّد عليه ليصير مسلماً، فكان ردّه انه لا شيء يفصله عن المسيح. قال: “أنت سيِّد على جسدي لا على نفسي. إذا تركتني لحرّيتي أتعاطى واجباتي الدينية فإني مطيعك بلا تردّد. بكل سرور تجدني أرتاح إلى هذه الزاوية من الإسطبل ويرتحل ذهني إلى المسيح الذي حسب مذود بيت لحم سريراً ملوكياً. مستعدٌ أنا ان أحتمل بلا تذمّر ضربات عصاك كما تحمّل الرب يسوع ضربات الجند. أما إذا شئت أن تخضعني بالقوّة لتحملني على الكفر بمسيحي فأنا مستعد أن أحتمل أكبر العذابات وأشدّها هولاً ولا أُنكره”.
كلمات يوحنا وغيرته على الإيمان بالرب يسوع المسيح وكذلك مسلكه العفيف المتواضع غيّر، بنعمة الله، قلب الآغا ومشاعره حياله فكفّ عن ترويعه وأقلع عن محاولة إجباره على التخلّي عن إيمانه، لا بل صار يعطف عليه. أوليس أنه لو أرضت الله طرق إنسان جعل أيضاً أعداءه يسالمونه (أم 16: 7)؟
أوكل الآغا إلى يوحنا أمر العناية بأحصنته، فأقام في زاوية معتمة من الإسطبل. لم يشأ أن يقيم في المنزل الخاص به، الذي أفرده الآغا وزوجته له. آثر حقارة الإسطبل نسكاً. وحين كان الآغا يخرج إلى القرية على صهوة جواده كان يوحنا يتبعه ماشياً كعبد.
على هذا النحو سلك يوحنا في صحرائه التي اصطفاها له الربّ الإله. كان حافي القدمين صيف شتاء، يلبس الأسمال، لا يأخذ من الراحة سوى قسط يسير على القش أو الزبل، نظير أيوب الصدّيق. يعمل في الإسطبل في النهار ويعمل في الصلاة في الليل. وكثيراً ما كان يوجد راكعاً الليل بطوله في ساحة كنيسة القدّيس جاورجيوس القريبة. وإلى ذلك كان يقبل تعيير العبيد الآخرين وتهكّمهم ولا يتذمّر، وكان يخدمهم. لسان حاله كان قول المرنّم في المزمور: “كثيرون قاموا عليّ. كثيرون يقولون لنفسي لا خلاص له بإلهه. وأما أنت يا رب فخلاصي ومجدي ورافع رأسي”.
وكما أن الله أغنى لابان ببركة يعقوب في العهد القديم، هكذا بارك الآغا فصار واحداً من أغنياء بروكوبيو. كان يعرف أن غناه المفاجئ هو بفضل سائسه يوحنا وكان يعلن عن ذلك في كل مناسبة.
وقرّر سيّد يوحنا أن يخرج في حجّ إلى مكّة. وطال الوقت ولمّا يعد فدعت زوجته أصدقاء زوجها إلى مأدبة على شرفه ليفرحوا ويدعوا للآغا بسلامة العودة. كان القدّيس يوحنا يخدم المائدة. وكان من ألوان الطعام الرز المفلفل الذي كان الحاج حسن آغا يرغب فيه. فقالت المرأة للقدّيس: “يوفان، لو كان سيِّدك هنا وأكل معنا من هذا الأرز فكم كان سروره سيكون عظيماً!” فلما سمع يوحنا ذلك طلب من سيِّدته صحناً من الأرز وقال إنه سيرسله إلى سيّده. ضحك المدعوون لما سمعوا وظنّوا أنه يقول ذلك من محبّته لمعلّمه أو أنه يريد أن يأكل الأرز وحده على انفراد أو أن يعطيه لعائلة فقيرة كما اعتاد أن يفعل بطعامه اليومي. أنّى يكن الأمر فقد قالت السيّدة للطبّاخة أن تعطي يوحنا الصحن الذي يطلب وتركته يفعل به ما يشاء.لم يخطر ببال أحد من الحاضرين أن القدّيس لمّا تفوّه بكلماته تلك كان يعني ما يقول.
أخذ القدّيس الصحن ونزل إلى الإسطبل وركع على التبن وصلّى: “يا مَن أرسل حبقوق النبي، قديماً، إلى بابل بطعام إلى دانيال النبي (دا 14: 33…) استمع إلى صلاتي، أنا أيضاً، وأوصل هذا الصحن إلى معلّمي!” وبعدما تمّم صلاته عاد إلى قاعة الطعام وأعلن أن الصحن وصل إلى معلّمه. كل الحاضرين انفجروا ضحكاً وقالوا: لا بدّ أن يكون قد التهم الطعام بنفسه. فلما عاد معلّمه، بعد أيام، حاملاً معه الصحن وعليه حروف اسمه، قصّ على أهل بيته أنه وجده وفيه الأرز المفلفل الشهي لما عاد إلى خيمته عند المساء في اليوم الفلاني. كل أهل البيت أصابهم الدهش وذكروا اسم الله، كما شهدوا ليوحنا.
بعد ذلك رغب الآغا في إكرام يوحنا فعرض عليه مسكناً لائقاً فلم يشأ. زاوية الإسطبل المعتمة كانت لديه خيراً من قصور الملوك.
على هذا النحو سلك يوحنا في التقوى سنين عديدة. فلما تثقّل بالمعاناة والمشاق والأتعاب مرض وشعر بدنو أجله، فرجا أحد معارفه المسيحيّين أن يُحضر له كاهناً لكي يناوله ولكن خاف الكاهن ولم يشأ أن يظهر بالقدسات أمام يوحنا لئلا يغيظ الأتراك ويسيئوا إليه وإلى القدسات. لكنه أرسل له تفّاحة جوّفها وجعل الجسد والدم في قلبها. على هذا ساهم قدّيسنا القدسات وأسلم روحه الطاهرة بين يدي الله الحيّ يوم 27 أيار من العام 1730م. كان قد بلغ من العمر الأربعين.
في شهر تشرين الأول من السنة 1733م شعّ نور فوق قبر القدّيس، وقد رآه الكثيرون فانذهلوا. كذلك تراءى في الحلم للأب زوسيما، كاهن بروكوبيو، وقال له إن جسده لم يطرأ عليه فساد وإن إرادة الله أن يُنبَش القبر وتُتّخذ بقاياه كبركة ومعونة. وبالفعل نُبش القبر وأخرجت البقايا المقدّسة فاستبانت سليمة، كما عبق في المكان طيب زكي، حتى ان المؤمنين جمعوا التراب العطر الذي كان حول الجسد واحتفظوا به ذخيرة واقية. أما الجسد فوضعوه في تابوت ونقلوه إلى كينسة القدّيس جاورجيوس في بروكوبيو حيث بقي إلى العام 1924 حين حمله المؤمنون معهم إلى بلاد اليونان إثر عملية تبادل السكّان التي حصلت في تلك السنة. ورفاته موفورة اليوم بركة للمؤمنين في قرية “بروكوبيو الجديدة” في جزيرة إيفيا اليونانية، على بعد 49 كلماً شمالي خالكيذا.
هذا وتُعزى إلى القدّيس يوحنا عجائب جمّة لا زالت تجري إلى اليوم. من ذلك أنه في العام 1832 اجتاح عسكر الخزندار أوغلو عثمان باشا بروكوبيو ونهبوا المنازل وجرّدوا كنيسة القدّيس جاورجيوس من الأواني الثمينة والتقدمات. ولما عاينوا تابوت القدّيس يوحنا فتحوه ظانّين أن في داخله ذهباً. وإذ لم يجدوا شيئاً سوى الجسد جمعوا خشباً وقشّاً وأشعلوا ناراً عظيمة في ساحة الكنيسة ورموا الجسد في النار. وفيما هم يتلهّون حول النار انتصب القدّيس فجأة وسط النار وكأنه عاد حيّاً، وكانت ألسنة النار تحيط بالجسد ولا تحرقه. فلما رأى العثمانيون ذلك فرّوا هاربين تاركين وراءهم كل ما سرقوه من الكنيسة. فلما كان اليوم التالي جاء شيوخ وأعادوا الجسد الذي لم يتأثّر بالحريق إلى التابوت.
كذلك يُروى عنه أنه في السنة 1862م، بعد القدّاس الإلهي، في كنيسة القدّيس باسيليوس، ذكرت امرأة تقيّة انها حلمت بالقدّيس يوحنا “وهو يخرج من تابوته ويذهب إلى المدرسة المجاورة ويسند بكلتا يديه سقفها المتداعي”. واما إن أنهت كلامها حتى سُمع دويّ قويّ، هرع معه المصلّون إلى خارج الكنيسة مذعورين، فإذا بسقف المدرسة المجاورة قد تداعى وسقط على القاعة التي كان التلاميذ مجتمعين فيها. اندفعوا صوب المدرسة وهم يصيحون ويبكون ورفعوا السقف. فإذا بالتلاميذ العشرين سالمون لم يُصب أحدٌ منهم بأذى. كيف حدث ذلك؟ قال الأولاد إنهم قبل أن يسقط السقف سمعوا قرقعة مخيفة كانت بمثابة تحذير فاختبأوا تحت المقاعد. فلما سقط السقف استندت كُتَلُه على المقاعد ولم تؤذِ أحداً.
كذلك أخبروا عن حادث معجر، جرى في العام 1874م وله علاقة بأحفاد الآغا الذي استخدم القدّيس. فإن يوحنا أنبأ عما حدث لإحدى بنات أحفاد الآغا جرى خلاله خطفها وتجريدها من حلاها وقتلها: مَن وكيف وأين جرى القتل.
ومن أخباره أيضاً أنه أنذر أحد رهبان دير القدّيس بندلايمون الروسي، في جبل آثوس، في العام 1878، كان في طريقه إلى بروكوبيو ليسجد لبقايا القدّيس يوحنا، أنذره أن لصوصاً يكمنون له فعاد أدراجه من حيث أتى ونجا.
كذلك ورد أن السفينة التي أقلّت الكثير من سكّان بروكوبيو كلاجئين إلى جزيرة إيفيا اليونانية، في السنة 1924 أبت، عند نقطة معيّنة في البحر ان تتقدّم إلى الأمام. فقط أخذت تدور حول نفسها، فلما استطلع القبطان الأمر تبيّن له أن رفات القدّيس يوحنا كانت موضوعة في عنبر السفينة. فلما نُقلت إلى مكان لائق وأضيء أمامها قنديل الزيت ليل نهار تابعت السفينة سيرها بسلام.
يذكر أن كنيسة فخمة جرى بناؤها بين العامين 1930 و 1951 في قرية بروكوبيو الجديدة ضمّت رفات قدّيس الله.
القدّيس الشهيد في الكهنة هللاذيوس
كان هللاذيوس رئيس كهنة، خدمته، اليوم، تبيّنه كذلك بلا شك. لكن لا الموضع الذي تسقف عليه ولا الزمن الذي عاش فيه وفيه تمّم شهادته معروفان. جلّ ما نعرفه أنه كان إناء للنعمة الإلهية وأنه رعى شعبه بحرص واهتمّ بحفظه لا سيما من الذئاب العقلية، هراطقة ووثنيين. خلال إحدى حملات الإضطهاد على المسيحيّين قبض عليه وأوقف أمام المستبدّين فاعترف بإيمانه بالرب يسوع بكل قوّة. عرّضوه للتعذيب فتألق بالأكثر. ولما شدّدوا عليه الخناق ظهر له الرب يسوع ولمس جراحاته وشدّده. ألقي في أتون نار فحفظته نعمة الله. هذه الآية اجتذبت إلى المسيح عددا كبيرا من المسيحيّين. أما الطغاة فأسلموه إلى عذابات جديدة ولم يرعووا إلى أن لفظ أنفاسه وحظي بإكليل الظفر.
الطروبارية
+ صرت مشابهاً للرسل في أحوالهم، وخليفة في كراسيهم، فوجدت بالعمل المرقاة إلى الثوريا أيّها اللاهج بالله، لأجل ذلك تتبعت كلمة الحق باستقامة، وجاهدت عن الايمان حتى الدم، أيّها الشّهيد في الكهنة هللاذيوس، فتشفع إلى المسيح الإله أن يخلص نفوسنا.