تتغنّى ترانيمنا الكنسية دائماً ببتولية مريم العذراء، ويرى الرهبان والراهبات في شخصها القدوةَ والشفاعة والقائدة. هذا الإعجاب بالبتولية لا يرافقه أي احتقار نحو الزواج، في كنسيتنا الأرثوذكسية، على عكس الكثيرين وخاصة في الأديان القديمة. فنظرتنا تحفظ للبتولية مكانة مميزة وتحفظ للزواج أيضاً مكانته المقدسة.
عرفت الأديان القديمة بعض العذارى الآلهات اللواتي كان عليهن أن يحفظن بالبتولية صباهنّ وجمالهن! وهذا المفهوم هو غير مفهومه في الكتاب المقدس، الذي لا يعرف سبباً للبتولية إلاّ تخصيص المحبة الكلية لله وحده!
بعد مجيء يسوع وموته وقيامته انفتح تاريخ جديد في عالم البتولية. لقد اختار يسوع هذه الطريقة في الحياة ليكون في كل شيء لأبيه. ولو أن العهد القديم عرف بعض الحالات إلا أنها كانت نادرة تتوجت في شخص يوحنا المعمدان الذي تربّى عند “الأسانيين”، الذين كانوا يعرفون هذا النمط الرهباني المتبتّل للحياة. فإن البتولية هي عرس
عفافيّ فيه يحتل الله مكانة العريس لكل نفس بشرية تلك التي تغدو عروساً له. وهذا ما يصفه سفر الرؤيا: “تقول العروس والروح” ( تصرخ النفس بالروح القدس) “تعال يا رب تعال”، ويجيب “ها أنذا آتي سريعاً” (رؤيا 22، 20). وهذه الكلمات تشكل خاتمة الكتاب المقدس، وبالوقت ذاته تشكل نهاية مطاف حياة كل البشر!
تنطلق قدسية البتولية في المسيحية ليس من سبب شرعي يحرّم الجنس والزواج على أنهما صيغة غير طاهرة. وإن تأثرت بعض الكنائس الغربية بهذه النظرة الفلسفية والعالمية عن الجنس فإن كنسيتنا الشرقية حافظتْ على روح البتولية في جوهرها وحقيقتها سالمة. تنطلق البتولية من المفهوم الانثروبولوجي العميق للجنس ذاته. لا ترى المسيحية الجنس وظيفةً بيولوجية أو نزوة غير طاهرة، يتوجَّب على الأطهار استئصالُها! إن الجنس “دافع” وضعه الله في الحياة الإنسانية وله غاياته الروحية فهو ليس فقط وظيفةً بيولوجية. لا ينحصر معنى الجنس إذن في “النـزوة” للشهوة ولا حتى في “الطاقة” على الإنجاب. واليوم يمكن الاعتماد على طرق علمية في تكوين الكائن البشري دون العلاقات الجنسية المباشرة، لكنَّ هذا لا يلغي المعنى الإنساني للجنس في الحياة البشرية. إذن الجنس هو “دافع” باركه الله ووضعه في الإنسان من أجل “غاية” وهدف. كما هي كل أمور الحياة. والطعام مثلاً يشبهه. فليس الطعام وظيفة بيولوجية حصراً. لأنه لو افترضنا أنه يمكن التعويض عن الوجبات والموائد ببعض الحبوب أو المصل… (وهذا ما يحصل في حالات اضطرارية وطبيّة)، فهل تقوم حياة الإنسان دون “وجبة الطعام”، التي لها أبعاد روحية عميقة ومهمة؟ إن الكثير من العلاقات الإنسانية التي تخصّ جوهر حياة الإنسان تدور حول “طقس الموائد”. وإذا كنا لا نمدح هنا المبالغات فإننا نؤمن بضرورة هذا الطقس في اعتداله. وللجنس كذلك غايات روحية يجب أن يصل إليها هذا “الدافع” الأول.
فالبتولية ليست “حرماناً” أو “امتناعاً” عن الجنس كشيء غير طاهر، حاشى! وحتى لو لم تعرف ممارسته. البتولية اصطفاء للبعد الروحي من الجنس في صورته الكاملة. البتولية هي قفزة إلى العلاقة الروحية التي يجب أن يصل إليها الزواج عبر الدوافع الجنسية. إن الطهارة أو العفاف… وما شابهها من كلمات هي غاية الحياة الزوجية. لقد خلق الله في الإنسان هذه الدوافع والطاقات الجنسية لكي تكون رابطاً يبني علاقة قوية جداً، فيرتقي الجنس بالإنسان من الدافع إلى العلاقة. ولكي نقدّر نظرة الكتاب لهذه النظرة الروحية لغاية الجنس والزواج علينا أن نقارن تقييمه للعلاقات البشرية المختلفة. فإذا كانت العلاقة بين الأم وابنها هي العلاقة الأسمى، فإن العلاقة التي يبنيها الجنس في الزواج هي علاقة أهم وأقوى. لهذا يقول الكتاب “يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته…” أي يجعل الكتاب المقدس العلاقة التي يربطها هذا الدافع علاقة أهم من سائر العلاقات الطبيعية الأخرى، وهذه الأخيرة أيضاً مقدّسة. لهذا إن أكثر مَن يظلم الجنس في حياته هو من يحصره في الدافع ويقتل العلاقة الروحية. وهذا ما نسميه “زنى”. وهكذا نفهم لماذا لا تقبل الكنيسة الممارسات الجنسية قبل الزواج بينما تباركها في الزواج. لأن الزنى هو الرضوخ للدافع دون بناء علاقة، بينما العفة هي الوصول إلى العلاقة باستخدام الدافع (كما في الزواج).
البتولية هي الوصول إلى العلاقة الروحية مع الآخر وجميع الناس باستباق واقع الدوافع. البتولية هي استباق إلى الجانب الروحي من الحياة بقفزة أسرع من مسيرة الدوافع. لذلك لا “يحرم” الراهب ذاته ولا “يحرّم” على الآخرين، كما يظن البعض. “يستبدل الراهب عشقاً بعشقٍ” يقول الأدب الرهباني؛ لذلك يملأوه العشق الإلهي فيستغني إذا أراد عن تعشّق ذلك الدافع الجنسي. لا يعيش المتبّتل في القهر والحرمان، على العكس إنه أكثر من يعطي للجنس حقه وكرامته، حين يحقق الجانب الروحي بنجاح في حياته دون أن يستخدم الدافع الطبيعي.
مريم البتول مثالُ المتبتلين وقائدتُهم. ولكن هي أيضاً أم ومثال جميعِ المسيحيين. “البتولية” هي غاية الزواج وطريقة الرهبنة. لذلك لا تحتقر الكنيسة الزواج أبداً ما دام له الغاية عينها التي للرهبنة. ولكن ما نلاحظه من تشجيع على البتولية يصل لحدّ التفضيل عند بولس الرسول “من استطاع فليكن مثلي (متبتلاً)” فهذا مرّده ليس سبباً شرعياً يختص بالطهارة أو النجاسة، لا سمح الله! إنما سببه هو تحرّر طريقة العيش البتولي الرهباني من أشكال دهرية ومادية كثيرة، تلك التي تفرضها المجتمعاتُ البشرية كلَّها دون استثناء على حياة الأفراد فيها. فالكنيسة تقدس الزواج كما البتولية، وتعطي بذلك للجنس حقه الإنساني الحقيقي. دون أن يشكك بذلك تفضيلهُا للبيئة الرهبانية على البيئة المدنية حين تكون غاية الحياة هي تحقيق العفة وممارسة الفضائل.
إذا ما كان الرهبان قد أخذوا مريم العذراء شفيعةً وقائدة، فإن جميع المتزوجين يحتاجون إلى هذا المثل وهذه الشفاعة بالمقدار ذاته إن لم يكن أكثر بسبب الظروف الأقسى.
لذلك نرّنم جميعنا في أبيات المديح الكثير الكثير من الكلمات التي تمدح الطهارة ولا تلغي الزواج، أو تميّز البتولية الرهبنة وتوجه الزواج. “افرحي يا والدة زارع الطهارة”. آمين.