إن المسيحية المشرقية هي ” قاعدة إطلاق ” المسيحية إلى العالم وتشكّل حتى الآن ضمانة هذه العقيدة وتحقيقها. ولم يتّخذ المسيحيون من المسيحية هوية ” متقوقعة ” مميزة عن سواها. عرف مسيحيو المشرق قبل غيرهم ما يُحَبْ أن نسميه ” شهادة الصمت ” فعاشوا، بعيداً عن أمجاد روما، أصالة الإيمان والرجاء والمحبة التي لا تتوفّر إلّا في الإيمان بالله من خلال نظرة مسبقة للآخرة ومن خلال حسن معاملة الآخرين ومحبتهم التي يمثلها لنا المسلم. إنهم يعبّرون عن السر العظيم لوحدة الإنسانية فكلّ إنسان يحمل في ذاته الإنسانية بكاملها فيدان بنسبة ما يحمل من محبة.
نحن مسيحيي الشرق نطالب بالعدالة للمسلمين كما نطالب بها للمسيحيين. نطالب بالعدالة للفلسطينيين أياً كان انتماؤهم الديني ليعودوا نموذجاً للعيش المشترك مثالاً يحتذى لإقامة سلام سلامي لاسلامي سياسي ولتصبح أورشليم في نهاية المطاف ما يعنيه اسمها ” مدينة السلام ” وليصبح الشرق الأوسط بالنتيجة البوتقة السماوية التي تلتقي فيها المعتقدات الإبراهيمية الثلاثة لخدمة الإنسان بدلاً من أن يكون ميدان المعركة للنزاعات.
الشرق إما أن يبقى مَوطناً للسلام والحرية أو أن يفقدَ كلَّ خصوصيةٍ له. ومداهُ الحضاريُّ دنيا العربِ أولاً والعالمُ كلُّه ثانياً.
القدس وفلسطينها معراجنا جميعاً إلى السماء. وهي بعضٌ من إحساســنا بالملكوت. وكنا دائماً نصرُّ على أن القدس وفلسطين بشرٌ لا حجرٌ. نحن لسنا نواجه مشكلة الحفاظ على الأماكن المقدسة وحسب، ولكننا نواجه مسؤوليتنا في الحفاظ على فلسطين وسوريا ولبنان واليوم الأردن وسواها من أرض العرب في المشرق. إن عزة هذه الأرض وسكانها جزءٌ من رسالتنا قبل اليوم الأخير، ولن نضحي بشبرٍ من هذه الأرض الحبيبة إلى الله وشهوده حتى يَحُلَّ السلام العادل الشامل في ربوعنا.
إن المسيحية كانت منذ الأصل ولا تزال الديانة التي عُبِّر عنها إلهياً وبشرياً. عُبِّر عنها أولاً في القدس. عندما أذكر الديانات اليهودية والإسلام، دائماً أحب أن ألفت النظر إلى أن اليهودية في النهاية إذا كانت تعتمد على النبي موسى، فالنبي موسى ولد في مصر ولم يعرف فلسطين. أتى إليها ولكن لم يدخلها كما يقول الكتاب المقدس. بعدئذ نبي الإسلام محمد غير مولود في فلسطين، أعتقد هذا صحيح. ولكن المسيحية في شخص المسيح هي فلسطينية. المسيح فلسطيني والحدث المسيحي فلسطيني بالدرجة الأولى لذلك لا يمكننا أن نقول عن المسيحية إنها أتت إلى القدس في وقت من الأوقات. إنها هي بلد السيد المسيح وهذا شيء مهم جداً.
وقد تطرق سيادته على الوجود المسيحي قبل وأثناء الفتح الإسلامي ودور المسيحيين في بناء الحضارة الإسلامية، ودورهم في العصر الحديث وخاصة في فكرة القومية العربية والنضال ضد الاستعمار بما فيه الإسرائيلي. ثم انتقل ليبرز بشكل خاص الدور المسيحي في النضال الفلسطيني:
” للكنيسة في فلسطين دور محوري في مسيرة المقاومة والتنمية والبناء، ولأبناء شعبنا المسيحيين مواقف مشرّفة في مسيرة نضال شعبنا نحو الحرية والعدالة والاستقلال، وهو الأمر الذي تنبهت له الحركة الصهيونية مبكراً، فعملت على إفراغ الأرض من أهلها المسيحيين، عبر تبني سياسات ممنهجة، تقوم على تهجيرهم القسري، كما حدث عامي 1948 و1967، أو عبر انتهاج سياسات تقوم على حرمانهم من حقهم بالمواطنة، ارتكازاً على قوانين عنصرية، تمييزية، كما هي الحال مع المواطنين الفلسطينيين في القدس الشريف، وتهيئة كافة الظروف التي تساهم في هجرتهم خارج الوطن، كما أن الذاكرة الوطنية، والثقافية، والحضارية، والفنية، والعلمية، والأكاديمية لفلسطين، لا تكــتمل سطورها، ولا تستوي حروفها، من دون استذكار الدور المركزي، والمحوري للفلسطينيين المسيحيين، بدءاً من الفلسطيني الأول السيد المسيح عليه السلام، والقديسة مريم العذراء، مروراً بكوكبة لا تتسع صفحات الكتب لذكرهم جميعاً، منهم: جورج حبش، ونايف حواتمة، وكمال ناصر، وإدوارد سعيد، وحنان عشراوي، ووديع حداد، وإميل الغوري، وكريم خلف، وناجي علوش، وروز ماري وخليل السكاكيني، وميليا السكاكيني، وجورج أنطونيوس، وخليل بيدس، وأميل توما، وأنطون شماس، وإميل حبيبي، ونعومي شهاب، ونتالي حنظل، وتوفيق طوبي، ومي زيادة، وحنين الزعبي، وسليمان منصور، والثلاثي جبران، وسيلفادور عرنـــيطة، وإبراهيم وبدر لاما، وسميرة عـــزام، ونيـــقولا زيادة، وكلثوم عودة، وجورج أنطونيوس، وشكري حرامي، وتوفيق كنعان، وسميح فرسون، وأنيس ويوسف الصايغ، وصبري جريس، وجوزيف مسعد، وكلارا خوري، وإليا سليمان وكمال بلاطة، والمطران عطا الله حنا، والمناضل والأب إبراهيم عياد والبطريرك ميشال صباح والأب خضر جمال، وفؤاد الطوال، ونعيم عتيق، ومتري الراهب، وإلياس شكور، وسليم منير، وإبراهيم نيروز، وعزمي بشارة وغيرهم الكثير.
شكلت الكنيسة الفلسطينية، أحد أعمدة النضال الوطني ضد الاحتلال، ونستذكر في هذا الإطار، عملية اغتيال الأب الشهيد فيلومينوس داخل كنيسة بئر يعقوب في نابلس، بسبب موقفه المبدئي، وتصديه لإقامة بؤرة استيطانية في المكان على يد مستوطني الون موريه، وثورة الضرائب التي انطلقت من كنائس بيت لحم، التي شكلت مشعلاً للثورة ورفض الاحتلال، والتمرد على عنصريته، وظلمه، كما أن «وثيقة كايروس فلسطين» التي وقعها قيادات الكنائس والمؤسسات المسيحية في فلسطين عام 2009، والتي شكلت لاهوت التحرير الفلسطيني. والتي تنص على أن «الاحتلال العسكري لفلسطين يعتبر خطيئة ضد الله وضد الإنسانية» وتطالب جميع الكنائس والمسيحيين في العالم إلى مقاطعة إسرائيل وفرض عقوبات اقتصادية عليها وسحب الاستثمارات منها، لإلغاء القوانين العنصرية المتخذة من قبلها بهدف التمييز ضد الفلسطينيين.
كما كان ولا يزال للكنيسة في فلسطين، وللمسيحيين الفلسطينيين دور بارز في مسيرة العلم، وتأسيس العديد من المؤسسات الأكاديمية، إذ إن جامعة بيرزيت، التي غدت اليوم إحدى أبرز القلاع الأكاديمية في الوطن، تأسست على يد عائلة ناصر، وكذلك جامعة بيت لحم، التي فتحت أبوابها عام 1973، بدعم من الكنيسة الكاثوليكية، كما أن أول مدرسة نظامية في مدينة نابلس تأسست عام 1848، كانت داخل الكنيسة، يضاف إلى ذلك الدور الاقتصادي للكنيسة في فلسطين، إذ إنها تعتبر أحد أركان الاقتصاد الوطني بامتياز، إذ تشير الباحثة ديما رشماوي في بحث منشور لها، بأن 45 في المئة من العمل المؤسساتي في فلسطين هو عمل يعود لمؤسسات مسيحية، تقدم فرص عمل لنحو ما يقارب 22000 عائلة فلسطينية منها 15000 عائلة مسلمة، يضاف إلى ذلك الخدمات الإغاثية والخيرية التي تقوم بها الكنيسة باستمرار للمجتمع الفلسطيني ككل، إذ كان للكنيسة في فلسطين ولا يزال، دور بارز في بناء العديد من المستشفيات، وبيوت رعاية المسنين، في الناصرة، والقدس، وبيت لحم، ونابلس، وغزة، ورام الله.
المسيحيون الفلسطينيون ليسوا بأقلية، وليسوا بطائفة، إنما هم أهل الأرض الأصليين، هم شركاء الماضي، والحاضر والمستقبل، وصمودهم في الأرض، ومقاومتهم لكل أشكال التهجير، والتضييق من قبل الاحتلال، إنما هو صمود لشعبنا الفلسطيني، فالأديرة والكنائس، هي جزء أصيل من مكونات النسيج المجتمعي الفلسطيني، كما هي المساجد، والكنيسة الفلسطينية التي تتصدر الدفاع عن حقوق الإنسان، والحريات، والعدالة الاجتماعية، ومحاربة الظلم، والعدوان، والتطرف، من خلال مؤسساتها الممتدة في كل ساحات الوطن، ستبقى بأبنائها، ورموزها الوطنية والدينية، منبراً للحرية، ومقاومة الظلم والعدوان، والمحافظة على الأرض والأملاك الوطنية من التسريب، والبيع.
الموقف من تهويد القدس:
الفت الانتباه أن البطريرك الأنطاكي وأطلق عليه بزمن المثلث الرحمة البطريرك الياس الرابع الذي حضر القمة الإسلامية بلاهور للدفاع عن القضية الفلسطينية وأيضاً المثلث الرحمة البطريرك اغناطيوس الرابع في الطائف.
صدر بيانات عن كل الكنائس شرقاً وغرباً وعن مجلس كنائس الشرق الأوسط ولكن سأخص بالقراءة بيان المجمع الأنطاكي المقدس ومواقف من كنيستي:
“يعبّر آباء المجمع عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني المعذّب ويندّدون بالمجازر التي ترتكبها سلطات الاحتلال الاسرائيلي بحق المواطنين العزل والأطفال. وفيما خص قضية القدس الشريف عبّر الآباء عن موقفهم الثابت أن القدس تبقى في ذهن وضمير المسيحيين والمسلمين محجةً إلى رحمانية الله وتبقى عصيةً على كل مؤامرة وتزييف للتاريخ. وهي عاصمةٌ لفلسطين وللشعب الفلسطيني وقبلة أنظار المشرقيين من كل الأطياف”.
أمانة سر المجمع الأنطاكي المقدس
“القدس محرّمة، وأنا لن أذهب إلى هناك، ولو أتيح لي ذلك، لأنني لم استطيع أن أحتمل أن يمس باسبوري عسكري اسرائيلي، لا أقبل السلام مع اسرائيل، لأن هذا اعتراف بدولة حبل بها بالإثم وولدت في الخطيئة. الاعتراف باسرائيل هو موقف ضد قناعاتي اللبنانية والكنسية… ومن كان في الإنجيل وفي القربان فهو مع يسوع بحج أو بدون حج”.
المطران جورج خضر
“فليعرف كل واحد أن تهويد القدس أو إبعادها عن كل واحد منا، مهما كان مذهبه ومشربه، وإن جاز لنا أن نكون في كثير من الأوقات ناظرين إلى شؤوننا من بعيد وكأنها ليست لنا، فهذا الشأن شأننا وفي صميم قلوبنا، وفي أعماق نفوسنا. لا يجوز، لادينيّاً ولا خلقياً ولاقومياً ولا سياسياً، لأي واحد من منطقتنا هذه بصورة خاصة، أن ينظر الى تهويد القدس وكأنه يخص غيره، يجب أن ترتفع الأصوات. يجب، كما نقول باللغة العامية، أن “تقوم القيامة” من أجل مكان القيامة وكنيسة القيامة… يجب أن نقوم بكل جهد لنا. يجب أن لا يكون الآخرون والأخصام والأعداء جدّيين في سلبنا القدس أكثر من جدّيتنا في استعادتها. إني أطلق هذا الصوت، وأطلب إلى كل واحد منّا أن يشعر أن بيته سلب، أن كنيسته قد سلبت، عندما يستلب الطابع الأصيل لهذه الكنيسة”.
المثلث الرحمة البطريرك اغناطيوس الرابع