رَجُلُ المؤسَّساتِ
في الذِّكرى السادسةِ لرحيلِ المثلَّثِ الرَّحمةِ، البطريركِ إغناطيوسَ الرَّابعِ، سأُضيءُ على جانبٍ مِنْ شخصيَّتِهِ الغنيَّةِ والكبيرةِ، كما وَصَفَها صديقُ عُمْرِهِ المطرانُ جورج خِضْر – أَطالَ اللهُ بعُمْرِهِ. أُطلِقَ على غبطتِهِ لقبَ “رَجُلِ المؤسَّساتِ”. فما هو فِكرُهُ المؤسَّساتيُّ؟
البطريركُ إغناطيوسُ، كانَ إنساناً تجسُّدِيَّاً، إِذْ كلُّ فِكْرِهِ كانَ مُركَّباً على السؤال: لماذا تَجَسَّدَ الربُّ يسوعُ في هذا العالمِ؟ وكيفَ نُجسِّدُ هذا الحَدَثَ الإِلهيَّ؟ العالَمُ ليسَ مرذولاً، كما تقولُ بعضُ الفلسفاتِ، إنَّما هو مجالُ محبَّةِ اللهِ والقداسةِ بالنِّعمةِ، وَمَا دَوْرُ الكنيسةِ فيه إِلَّا تقديسَ العالَمِ وإِبرازَ وَجْهِ اللهِ فيهِ، وهذا لا يتمُّ إلَّا بحضورٍ فِعْلِيٍّ فيهِ؛ والمؤسسةُ وَجْهٌ مِنْ وُجوهِ هذا الحضورِ. تَكلَّمَ غبطتُهُ إِلى المُدرِّسِينَ قائلاً: “…المدرسةُ ليستْ تلقينيَّةً تدريسيَّةً فقط، لكنَّها قَبْلَ كُلِّ شيءٍ تَصوغُ كائناً بَشَريَّاً، لذلكَ لا يُمكنُها أَنْ تكونَ مِنْ دُونِ أَساسٍ. الأَساسُ الأُرثوذكسيُّ هوَ أَنْ تكونَ المحبَّةُ نَهْجاً يُعَبَّرُ عنهُ مِنْ خلالِ كلِّ شيءٍ… والمحبَّةُ لا شروطَ لها”.
إذاً، الإنسانُ وخِدْمَتُهُ هَدَفُ المؤسسةِ وسببُ وُجودِها، وَمَا التربويَّةُ مِنْها إِلَّا لِتَبُثَّ الرُّوحَ الأُرثوذكسيَّةَ المَشرقيَّةَ في الأَجيال الصَّاعدةِ. إِنَّها حُضورُ الكنيسةِ في المجتمعِ والوَطنِ؛ وقَدْ كانَ غِبطَتُهُ يقولُ: “الأَبُ الذي لا يَقومُ بتربيةِ أَولادِهِ فَإِنَّ غَيرَهُ سيقومُ بِهَا عَنهُ. ونحنُ نعتقدُ أَنَّ سِوانا ليسَ أَقلَّ قيمةً مِنَّا، لكنَّنا نعتقدُ أَنَّنا أُعطِينا تُراثاً عَريقاً، وفي تراثِنا الأَصيلِ مُعطياتٌ ليسَ لنا الحَقُّ في أَنْ نحتكرَها أَو نطمرَها. وَمِنْ واجباتِ الوطنِ علينا أَنْ نُعطيَهُ هذهِ القِيَمَ التي لَمْ تُسبِّبْ حتَّى الآنَ خُصومةً”.
عندَ افتتاحِ معهدِ اللَّاهوتِ، توجَّهَ إِلى الطُّلَّابِ قائلاً: “مدرسةُ أَنطاكيةَ تَحيا مِنْ جَديدٍ بَعْدَ أَربعةَ عَشَرَ قَرْناً”. إِنَّها رُؤيةٌ وَبُعْدٌ تاريخيٌّ لِدَوْرٍ أَنطاكيٍّ يُحقِّقُ استمراريَّةَ الفَرادةِ الأَنطاكيَّةِ. لهذا، رَكَّزَ على البلمندِ، إِيماناً مِنهُ بأنَّهُ قَلْبُ الكرسيِّ الأنطاكيِّ ونَبْضُهُ الحيُّ، لا بَلْ هُوَ مستقبلَ الكرسيِّ لأنَّهُ صانِعُ رُعاتِهِ ورُعَاةِ رُعاتِهِ.
ما ميَّزَ البطريركَ إغناطيوسَ، أَنَّهُ لَمْ يَفتخرْ بإنجازاتِهِ ليبنيَ مَجْداً أَرضيَّاً، مُعبِّراً عَنْ هذا بقولِهِ: “فكلُّ ما أَنجَحُ بتحقيقِهِ أَدينُ بهِ للعديدِ مِنْ هؤلاءِ الَّذينَ قَدَّموا ذواتِهم للمساعدةِ، إِنَّهم يفعلونَ هذا، ليسَ مِنْ أَجلي، لكنْ مِنْ أَجلِ مجدِ اللهِ”. وعندما سُئِلَ عَنْ صَرْحِ البلمندِ، قالَ: “هذا بفضلِ السيدةِ العذراءِ، لا بفضليَ”.
البطريركُ إغناطيوسُ كانَ رَجُلاً رُؤيَويَّاً، لَهُ فِكرٌ صافٍ وواضحٌ. كانَ قائداً بامتيازٍ… يَعرفُ إلى أَينَ هوَ ماضٍ. لذلكَ خَلَقَ نَهْجَاً فَرَضَ احترامَ الجميعِ، كنسيَّاً ودنيويَّاً، نَهْجَاً مبنيَّاً على الكلمةِ الإلهيَّةِ وسِرِّ التجسُّدِ، فَكانَ يَقولُ: “الكنيسةُ هيَ واقعُ التَّجسُّدِ الإِلهيِّ، فَلا نُشوِّهَنَّ هذا الواقعَ وندفنَهُ”.
لِيَكُنْ ذِكرُهُ مُؤبَّداً.
5 كانون الثاني، 2018
المطران غطَّاس هَزيم
بطريرك التجسد