الأيقونة ورؤيـة الله- أحد الأرثوذكسية – المطران بولس يازجي

November-4-2018

” تعــالَ وانظـــرْ…”

 يا لها من دعوةٍ جريئةٍ ومقدّسة! فيلبّسُ يدعو نثنائيلَ ليشاهدَ معه ماذا؟ بالأحرى مَن؟ الله! هل هذه الرؤية مطلوبةٌ أصلاً وهل تقّدم هذه الدعوة؟ وهل تحجب الأيقونة وجهَ الله أم تكشفه لنا؟

كم كانت هذه الدعوة غريبة بالنسبة لإنسانٍ يهوديٍّ تعلَّم “أنَّ لا أحد يرى الله إلاَّ ويموت”! وإذا ما أراد أن يقترب من الله فيمكنه أن يلاقيه في مجده فقط أو عن طريق حلول مجده في الخيمة أو المعبد. لعلّ تحدّي هذه الدعوة آنذاك ليس بأسهل من واقعه اليوم؟

رغم َقساوة هذا التحدّي، يبقى رسالة ملقاة على عاتقنا. نعم، لأنّنا رسل محبّةٍ وفداءٍ لخلاص الآخرين. ولأنّها “حاجة” الناس الحقيقيّة والمطلب الأخير للبحث الإنسانـيّ المعذَّب.

يتطلّع الناسُ إلى أمورٍ شتّى، ويبنون أحلاماً مختلفة، ويصبون إلى أهداف متنوعة لأنَّهم عطشى؛ لكن الخبرة البشريّة دلّت، أنَّ الوصول إلى كلّ تلك الغايات لا يترك بعده إلاَّ العطش إلى المطلب الحقيقيّ. لقد عَبَدَ فلاسفة أثينا كلّ الآلهة، التي لم تروِ عطشهم الإنسانـيّ، لذلك نصبوا معبداً للإله المجهول الذي جاء بولس يبشّرهم به. لا يمكن للعين البشريّة أن ترتاح إلاَّ إلى برؤية الله. وهذه هي الحاجة البشريّة الأخيرة التي عبَّر عنها فيلبّس بالإنجيل حين قال ليسوع: “يا سيّد أرنا الآب (الله) وحسبنا”. “تعالَ وانظرْ”، هذه العبارة تلخّص خطاب المسيحيّ مع كلّ إنسانٍ حوله. إنّها تلخِّص بالنهاية، أرثوذكسيّة كلّ مسيحيٍّ. والمقصود هنا بالأرثوذكسيّة (استقامة الرأي) الأرثوبركسيّة (استقامة المسلك). “تعالَ وانظرْ”، هذه العبارة هي أرثوذكسيتنا تجاه الناس..

 رداً على السؤال “يا سيّد أرنا الآب وحسبنا”، أجاب يسوع: “من رآني فقد رأى الآب”. المسيح هو صورة الآب، إنّه كلمة الآب للناس، يُمثّل كامل المشيئة الإلهيّة، إنّه مكان الآب فعلاً، به نرى ونعرف الآب وهو الذي يكشفه لنا.

يمكننا أن نرى يسوع ونخاطبه، ونتعلّم منه بواسطة الأيقونة. هل رأينا أيقونةً للضابط الكلّ وتعلّمنا منها عناية الله بنا ودعوته لنا! كلّما نظرنا إلى أيقونة الميلاد نجوز بها إلى حدث التجسّد، إلى النداء الإلهيّ.

ننظر إلى أيقونة المصلوب فنفهم ما لا تسعه مئات الصفحات عن محبة الله، ننظر إلى أيقونة الفريسي والعشار، وهي خشبٌ وألوان، لكنها تعطينا درساً عن التواضع لا تشرحه صفحات! هي الحقيقة والمعنى، يمكن التعبير عنهما بكلماتٍ كما بالصمت أو بالألوان. الأيقونة إنجيلٌ مكتوبٌ ليس بحروفٍ وتعابيرَ، ليس بنصوصٍ وإنما بألوان. إنها مشهدٌ، نشاهد منه الحدث. الأيقونة ليست خشبة نسجد أمامها، إنما هي نافذةٌ نطلّ منها ونذهب إلى عالمِ مَن وما تصوّره.

 الأيقونة أداة عبادة. ونقصد بالعبادة هنا كلّ ما يقودنا إلى مخاطبة الله والحوار معه بشأن حياتنا، ومسلكيتنا، ورسالتنا، وعلاقتنا بالآخر. بالأيقونة إذاً نرى الله، وبالأيقونة نكشفه للآخرين أيضاً. إكرام الأيقونات واجبٌ، لأنَّ الأيقونة تجوز بنا إلى عنصرها الأول، كما يقول باسيليوس الكبير.

 الأيقونة تروي عطش العين البشريّة وتعطيها ارتياحها. حين التحق القدّيس سلوان الآثوسي بالدير بعد حياة متقلِّبة وبدأ حياة التوبة وأتعاب الفضيلة، دخل إلى الكنيسة مرّةً وهناك شاهد في أيقونة السيّد ملامح الغفران.

فلأيقونتك الطاهرة أيّها الصالح نسجد مستمدّين مغفرة الخطايا، وإيّاها نرفع وننظر، وبها نكشف وجهك وحبَّك ونصرخ إلى كلّ قريب “تعالَ وانظرْ”. آميــن

المصدر: مدونة المطران بولس يازجي

www.paulyazigi.wordpress.com

GoCarch