شرح صلوات أسبوع الآلام – للأب الكسندر شميمن / ترجمة: الأب ابراهيم سروج

November-4-2018

شرح صلوات أسبوع الآلام

بداية الصليب: سبت العازر

(بعد إتمامنا الأربعين يوماً… نطلب أن نرى أسبوع آلامك المقدس). مع هذه الكلمات التي نرفعها في غروب الجمعة من أسبوع الشعانين, ننهي الصوم وندخل في التذكار السنوي لآلام المسيح وموته وقيامته. يبدأ هذا التذكار بسبت العازر. تصف الطقوس العيد المزدوج لقيامة العازر ودخول السيد إلى أورشليم كبداية الصليب, ولذا علينا أن نفهمه في إطار الأسبوع العظيم تؤكد الطروبارية المشتركة لهذه الأيام أنه (بقيامة العازر من بين الأموات يحقق المسيح القيامة العامة) : إنه ليعني لنا الشيء الكثير أن الكنيسة تقودنا بواحد من أعيادها الاثني العشر الكبيرة إلى ظلمة الصليب. النور والفرح لا يشعان فقط في نهاية الأسبوع العظيم. بل في بدايته أيضاً. إنهما ينيران الظلمة نفسها ويكشفان معناها العميق.

كل الذين يألفون الطقوس الأرثوذكسية (أي الصلوات) يعرفون الطابع الخاص والمفارق تقريباً لخدم سبت العازر, إنه أحد, أي خدمة أحد في يوم سبت مخصص عادة لتذكار الموتى. والفرح الذي يتخلل هذه الخدم يشدد على الموضوع الرئيسي: انتصار المسيح القريب على الجحيم. الجحيم هو التعبير الكتابي للموت بقوته العالمية, للظلمة, للإبادة التي لا مفر منها والتي تبلع كل حياة وتسمم بظلها العالم كله. أما الآن فقد بدأ الموت يرتعد مع قيامة العازر التي بها يبتدئ النزال الحاسم بين الحياة والموت والتي تعطينا المفتاح لكل سر الفصح الليتورجي.

سمي سبت العازر في الكنيسة الأولى (إعلان الفصح) : إنه يعلن ويستبق بالحقيقة يوم القبر المحيي, أعني يوم القيامة بنوره الساطع وسلامه الدافئ.

لنفهم أولاً, أن العازر صديق المسيح, يمثل العالم كله وكل إنسان, وبيت عنيا, بيت الإنسان العازر, ترمز إلى الكون كله كبيت للإنسان. ذلك لأن كل إنسان خلق صديقاً لله ودعي لصداقة إلهية: معرفة الله, الاتحاد به ومشاركة الحياة معه: (به كانت الحياة والحياة كانت نور الناس) (يو4:1) ومع ذلك هذا الصديق الذي أحبه الله, وبمحبة خلقه أي دعاه للحياة, قد تهدم وانعدم بقوة لم يخلقها الله وهي الموت. الله يجابه, في عالمه بالذات, قوة تهدم عمله وتعدم تصميمه وما العالم إلا حزن ونواح, دموع وموت. كيف يكون هذا ممكناً ؟ وكيف حصل ؟ هذه هي الأسئلة التي يلمح لها يوحنا في وصفه البطيء والتفصيلي لمجيء يسوع إلى قبر صديقه. ولما وصل (بكى يسوع) (يو35:11). لماذا يبكي وهو يعرف أنه بلحظة سيعيد العازر إلى الحياة ؟ إن واضعي الترانيم البيزنطية فشلوا في إدراك المعنى الحقيقي لهذه الدموع. إنهم ينسبونها لطبيعة المسيح البشرية بحيث أن قوة القيامة تخص الله فيه. ولكن الكنيسة الأرثوذكسية تعلم أن أعمال المسيح كلها (هنسانية) أي إلهية وإنسانية وكلها صادرة عن الإله الإنسان الواحد, عن ابن الله المتجسد نفسه. ليس الذي يبكي إنساناً وحسب ولكنه إله أيضاً, وليس الذي يدعو العازر من القبر إلهاً وحسب بل إنساناً أيضاً ولذا فدفوعه إلهية أيضاً. المسيح يبكي لأنه يتأمل انتصار الموت والخراب في العالم الذي خلقه الله. (قد أنتن) قالت مرتا, أخت العازر, محاولة أن تمنع يسوع من الاقتراب إلى الجثة وهذا التحذير الشنيع ينطبق على العالم كله وعلى كل حياة. الله هو الحياة ومعطي الحياة. لقد دعا الإنسان إلى حقيقة الحياة الإلهية وهاهو (قد أنتن)… وقد خلق العالم ليعكس ويعلن مجد الله وها هو (قد أنتن). عند قبر العازر يجابه الله الموت, نقيض الحياة, إنه يلاقي عدوه الذي أخذ منه عالمه وأصبح رئيسه. ونحن الذين نتبع المسيح مقترباً من القبر نأتي معه إلى (ساعته), ساعة الصليب, التي أعلنها مراراً كقمة كل أعماله وكمالها. إن أقصر آية في الإنجيل (ودمع يسوع) تعلن الصليب وضرورته ومعناه الكوني… نحن نفهم الآن أن المسيح ببكائه أي بتعبيره عن محبته لالعازر صديقه يملك سلطة دعوته إلى الحية ثانية. إن قوة القيامة ليست قوة إلهية بحد ذاتها ولكنها قوة المحبة أو بالأحرى المحبة هي الحياة, والمحبة تخلق الحياة. إنها المحبة التي تبكي عند القبر. إنها المحبة التي تعيد الحياة. هذا هو معنى دموع المسيح الإلهية. فيها تعود المحبة إلى العمل خالقة من جديد, فادية ومُحيية حياة الإنسان المظلمة: (العازر هلم خارجاً)… لهذا السبب سبت العازر هو بداية الصليب كأسمى تضحية للمحبة وبداية القيامة كقمة انتصار المحبة.

(المسيح الذي هو الحق وفرح الكل. والنور والحياة. وقيامة العالم, ظهر بصلاحه للذين على الأرض. وصار رسماً للقامة فاتحاً للكل غفراناً إلهياً). قنداق سبت العازر.

أوصنّا أحد الشعانين

إن سبت العازر هو من الناحية الطقسية سابق ـ عيد الشعانين أي دخول السيد إلى أورشليم. للعيدين موضوع مشترك: نصر وظفر. السبت يكشف العدو الذي هو الموت. والشعانين تعلن معنى الظفر كنصر ملكوت الله, كاعتراف العالم بملكه الوحيد يسوع المسيح. إن دخول المسيح الجليل إلى المدينة المقدسة كان النصر الوحيد المنظور في حياته. حتى ذاك اليوم كان يرفض بثبات كل محاولة لتمجيده. ولكن قبل ستة أيام من الفصح لم يقبل أن يُمجّد وحسب ولكنه نفسه حرض على التمجيد ودبّر له. لقد أوضح المسيح بعمله ما أعلنه النبي زكريا (هوذا ملكك يأتيك صديقاً مخلصاً وديعاً راكباً على حمار وجحش ابن أتان) (زكريا9:9) إنه أراد أن يُعترف ويُنادى به مسيا وملكاً وفادياً لإسرائيل. والإنجيلي يشدد أيضاً على كل هذه الملامح المسيانية: السعف, الأوصنّا, والهتافات للمسيح كابن داود وملك إسرائيل. تاريخ إسرائيل يأتي الآن إلى تمامه وهذا هو معنى الحدث. لأن القصد من ذاك التاريخ كان أن يعلن ويهيئ ملكوت الله ومجيء المسيا. والآن قد تم لأن الملك يدخل مدينته المقدسة وفيه تتم النبوءات والانتظارات كلها. إنه يدشن مملكته.

إن خدم أحد الشعانين تقيم تذكار هذا الحدث. عندما نحمل سعف النخل بأيدينا نتماثل بشعب أورشليم ونحيِّي معهم الملك الوديع مرنمين أوصنّا له. ولكن ما معنى هذا اليوم لنا ؟

يعني أولاً اعترافنا بالمسيح كملكنا وربنا. نحن غالباً ما ننسى أن مملكة الله قد بدأت وأننا في يوم معموديتنا قد أصبحنا مواطنين فيها ووعدنا أن نضع الولاء لها فوق أي ولاء آخر. علينا أن نتذكر دائماً أنه لبضع ساعات كان المسيح بالواقع ملكاً على الأرض وفي عالمنا هذا وفي مدينة واحدة. ولكن كما أدركنا في العازر صورة كل إنسان. علينا أيضاً أن نرى في هذا المدينة الواحدة المركز السري للعالم وبالواقع للخليقة كلها. لأن هذا هو المعنى الكتابي لأورشليم المركز الرئيس لتاريخ الخلاص والفداء كله, المدينة المقدسة لمجيء الرب. إذاً المملكة التي ابتدأت في أورشليم هي مملكة عالمية تضم في أبعادها كل الناس وكل الخليقة… لبضع ساعات, ومع ذلك كانت الوقت الحاسم, ساعة المسيح الجوهرية, ساعة إنجاز الله لمواعيده وكل تدبيره. إنها نهاية كل عملية التحضير المعلنة في الكتاب, نهاية كل ما صنع الله للإنسان. هكذا تلك الساعة القصيرة لانتصار المسيح الأرضي تأخذ معنى أبدياً. إنها تدخل حقيقة الملكوت في زمننا, في كل ساعاتنا, فتعطي لزمننا معناه وتوصله إلى غايته القصوى. لقد أعلن الملكوت في هذا العالم من تلك الساعة وحضوره يدين ويحول التاريخ البشري كله. وفي أكثر احتفالاتنا الطقسية مهابة, عندما نستلم من الكاهن غصن زيتون, نجدد القسم لملكنا ونقر بمملكته أنها جوهر حياتنا وغايتها القصوى. نقر أن كل شيء في حياتنا وفي العالم يخص المسيح ولا شيء يمكن أن يُقطع من مالكه الحقيقي الوحيد. نقر أنه ليس من طريق في الحياة لا يملك فيه المسيح ليخلص ويفدي. ونعلن مسؤولية الكنيسة الكلية والعالمية عن تاريخ الإنسانية وندعم رسالتها الكونية.

ولكننا نعرف أن الملك الذي هتف له اليهود والذي نهتف له اليوم هو في طريقه إلى الجلجلة, إلى الصليب وإلى القبر, إننا نعرف أن هذا النصر القصير ما هو إلا مقدمة لذبيحته. الأغصان التي في أيدينا إذاً تشير إلى إرادتنا واستعدادنا أن نلحق به على طريق التضحية, تشير إلى قبولنا التضحية ونكران الذات كالطريق الأساسي إلى ملكوته.

وأخيراً هذه الأغصان وهذا الاحتفال يعلنون إيماننا بنصر المسيح النهائي, إن ملكوته ما زال مستتراً والعالم يجهله. العالم يعيش وكأن الحدث الحاسم لم يحدث وكأن الله لم يمت على الصليب وكأن الإنسان فيه لم يقم من بين الأموات. ولكننا نحن المسيحيين نؤمن بمجيء الملكوت الذي فيه سيكون الله الكل في الكل والمسيح الملك الأوحد.

إننا نتذكر في احتفالاتنا الطقسية حوادث الماضي. ولكن المعنى العميق للخدم وقوتها أنها تحول التذكر إلى حقيقة. هذه الحقيقة, في أحد الشعانين, هي انخراطنا والتزامنا في ملكوت الله. المسيح لا يدخل فيما بعد مطلقاً إلى أورشليم. إنه دخلها مرة واحدة وهو لا يحتاج أي (رموز, لأنه لم يمت على الصليب قط لنجعل حياته رمزاً). إنه يريد منا قبولاً حقيقياً للملكوت الذي جبله لنا… إذا كنا غير مستعدين لنجدد القسم الجليل في أحد الشعانين من كل سنة, إذا كنا غير مريدين أن نجعل من ملكوت الله مقياساً لحياتنا كلها, باطل هو تعييدنا وباطل هو أخذ السعف من الكنيسة إلى بيوتنا.

الاثنين, الثلاثاء, الأربعاء: النهاية

هذه الأيام الثلاثة التي تسميها الكنيسة عظيمة ومقدسة لها ضمن التطور الطقسي في أسبوع الآلام قصد واضح ومحدد. إنها تضع احتفالاتها كلها في منظار النهاية وتذكرنا بالمعنى الأخروي للفصح. غالباً ما نعتبر أسبوع الآلام واحداً من (التقاليد الجميلة) أو (العادات), (جزءاً) بديهياً من تقويمنا. إننا نأخذه كشيء مسلم به, ونتمتع به كحدث سنوي لطيف (حفظناه) منذ طفولتنا, نعجب بجمال خدمه وأبهة طقوسه كما نعجب أخيراً وليس بأهمية أقل بالهرج والمرج بخصوص وليمة الفصح… وعندما نعمل كل هذه, نعود إلى حياتنا العادية ولكن هل نفهم أنه عندما رفض العالم مخلصه, عندما طفق يسوع يرتاع ويكتئب… وكانت نفسه حزينة حتى الموت (مرقس33:16- 34) وعندما مات على الصليب إن (الحياة العادية) انتهت وأصبحت غير ممكنة. لأنه كان هناك أناس (عاديون) صرخوا (أصلبه) وبصقوا عليه وسمروه على الصليب, وكرهوه وصلبوه بالضبط لأنه أزعج حياتهم العادية. لقد كان العالم بالواقع (عادياً) جداً مفضلاً الظلمة والموت على النور والحياة… بموت المسيح, العالم (العادي) والحياة (العادية) أدينتا إلى الأبد. أو بالأحرى أظهرا طبيعتهما الحقيقية غير العادية. وأظهرا عجزهما عن اقتبال النور, وقوة الشر المخيف الذي فيهما. (الآن هي دينونة هذا العالم) (يو31:12) لقد عنى فصح المسيح نهاية (هذا العالم) ومنذئذ كانت نهايته. هذه النهاية قد تدوم إلى مئات القرون, ولكن هذا لا يغير طبيعة الزمن الذي فيه نعيش ك (الزمن الأخير). (إن هيئة هذا العالم تزول). (1كو 31:7).

الفصح يعني العبور. وكان الفصح عند اليهود التذكار السنوي لتاريخهم كله كخلاص, كعبور من عبودية مصر إلى الحرية, من السبي إلى أرض الموعد. لقد كان هذا استباقاً للعبور الجوهري إلى ملكوت الله. والمسيح كان كمال الفصح. المسيح هو الذي حقق هذا العبور الحق: من الموت إلى الحياة, من هذا العالم العتيق إلى العالم الجديد إلى زمن الملكوت الجديد. وهو الذي أعطانا إمكانية العبور. إننا نعيش في (هذا العالم) وباستطاعتنا (ألا نكون من هذا العالم) أي أن نتحرر من عبودية الموت والخطيئة ونشترك (بالعالم الآتي). ولكن لأجل هذا علينا أن نحقق عبورنا. علينا أن ندين الإنسان العتيق فينا ونلبس المسيح في معمودية الموت وأن تكون حياتنا الحقيقية المستترة في الله بيسوع في (العالم الآتي)

وهكذا ليس الفصح تذكاراً سنوياً جميلاً وبهياً لحوادث مضت. إنه هذا الحدث بعينه ظاهراً ومعطى لنا فعالاً دائماً, مُظهراً دائماً عالمنا وزمننا وحياتنا وكأنها أدركت نهايتها, معلناً بداية حياة جديدة… الغاية من هذه الأيام الثلاثة الأولى من الأسبوع العظيم أن تتحدانا بمعنى الفصح الجوهري وتهيئنا لفهمه واقتباله.

هذا التحدي الأخروي – وتعني الجوهري, الحاسم, النهائي – ظاهر في الطروبارية المشتركة لهذه الأيام:

ها هو الختن يأتي في نصف الليل فطوبى للعبد الذي يجده مستيقظاً أما الذي يجده متغافلاً فهو غير مستحق فانظري يا نفسي ألا تغرقي في النوم ويغلق عليك خارج الملكوت وتسلمي إلى الموت. بل كوني منتبهة صارخة قدوس قدوس قدوس أنت يا الله. من أجل والدة الإله ارحمنا.

نصف الليل هي اللحظة التي ينتهي فيها اليوم القديم ويبدأ يوم جديد وهكذا هي رمز الزمن الذي فيه نعيش كمسيحيين. لأنه من جهة, الكنيسة ما زالت في هذا العالم, تشاركه ضعفاته ومآسيه. ومع ذلك فكينونتها الحقيقية, من جهة أخرى, ليست من هذا العالم لأنها عروس المسيح ورسالتها هي أن تعلن وتكشف مجيء الملكوت واليوم الجديد. حياتها هي انتظار وتوقع دائمان وابتهال متوجه إلى فجر هذا اليوم الجديد… ولكننا مازلنا منتمين بأعماقنا إلى (هذا العالم). لقد نظرنا النور, عرفنا المسيح وسمعنا بفرح الحياة الجديدة فيه وسلامها, ومع ذلك ما زال العالم يستبعدنا. هذا الضعف, هذه الخيانة الدائمة للمسيح, هذا العجز عن إعطاء كامل حبنا لصاحب الحب الحقيقي, كلها تتجلى رائعة في أكسابوستلاري هذه الأيام الثلاثة:

إنني أشاهد خدرك مزيناً يا مخلصي. ولست أمتلك لباساً للدخول إليه فأبهج حلة نفسي يا مانح النور وخلصني.

ويتضح الموضوع نفسه أكثر في أناجيل هذه الأيام. أولاً نصوص الأناجيل الأربعة (حتى يوحنا31:13) نقرأ في الساعات (الأولى, الثالثة, السادسة والتاسعة). وتظهر هذه الإعادة أن الصليب هو ذروة حياة المسيح كلها وكرازته, والمفتاح لفهمها الصحيح. كل شيء في الأناجيل يقودنا إلى هذه الذروة, ساعة يسوع, وعلينا أن نفهم كل شيء على ضوئها. علامة على ذلك كل خدمة لها إنجيلها الخاص.

الاثنين:

في السحرية: متى18:21- 43: قصة التينة رمز العالم الذي خلق ليحمل ثماراً روحياً وهو مخفق في جوابه لله.

في القداس السابق تقديسه: متى 3:24- 35: حديث المسيح الأخروي العظيم. علامات المنتهى وبدايته (السماء والأرض ستزولان وكلامي لن يزول…).

الثلاثاء:

في السحرية: متى 15:22- 23: دينونة الفريسيين أي الديانة العمياء والمرائية لأولئك الذين يظنون أنهم قواد الناس ونور العالم ولكنهم بالحقيقة (يغلقون ملكوت السموات على الناس).

في القداس البروجزماني: متى 36:24- 2:26 يتحدث عن النهاية وأمثال اليوم الأخير: العشر عذارى, خمس منهن حكيمات أخذن زيتاً في مصابيحن وخمس جاهلات لم يقبلن على مائدة العرس, مثل الوزنات العشر.. فاسهروا إذاً لأنكم لا تعرفون اليوم ولا الساعة التي يأتي فيها ابن الإنسان). ومن ثم الدينونة الأخيرة.

الأربعاء:

في السحرية: يوحنا 17:12- 50: رفض المسيح, الصراع المتزايد, التحذير الجوهري: (الآن دينونة هذا العالم… من رذلني ولم يقبل كلامي فله من يدينه. الكلام الذي تكلمت به هو يدينه في اليوم الأخير).

في القداس البروجزماني: متى 6:26- 16: المرأة التي سكبت الطيب الثمين على يسوع صورة عن الحب والندم اللذين وحدهما يُتحدنا بالمسيح.

تشرح ترانيم هذه الأيام الدروس الإنجيلية هذه وتوسعها: الاستيشارات والأوديات (مجموعة من ثلاثة أوديات ترنيم في السحريات). تحذير واحد وحض واحد يتخللان الترانيم كلها: النهاية والدينونة يقتربان فلنتهيأ لهما:

(إن الرب لما كان ماضياً إلى الآلام الطوعية, قال للرسل في الطرق: ها نحن صاعدون إلى أورشليم, وسيلسم ابن البشر حسبما كتب عنه. فهلم إذاً يا إخوة نصحبه بضمائر نقية, ونصلب معه, ونميت لأجله لذات العمر, لكي نعيش معه ونسمعه قائلاً: لست صاعداً إلى أورشليم الأرضية لكي أتألم, بل إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم, وأرفعكم معي إلى أورشليم العلوية في ملكوت السماوات).

أينوس سحرية الاثنين

يا نفسي ها قد ائتمنك السيد على الوزنة, فاقبلي الموهبة بخوف, واقرضي المعطي وآسي المساكين, واقتني الرب صديقاً لكيما إذا وافى بمجد تقفي عن ميامنه وتسمعي تلك النغمة المغبوطة, أدخل أيها العبد إلى فرح ربك, فأهلني له يا مخلص أنا الضال, لأجل عظيم مراحمك.

قرأنا خلال الصوم كله وفي صلوات الغروب كتابين من العهد القديم: التكوين والأمثال. أما في بداية أسبوع الآلام فنستبدلهما بالخروج وأيوب. الخروج هو قصة تحرير إسرائيل من عبودية مصر وقصة فصحهم. وهو يهيئنا لفهم خروج المسيح إلى أبيه وتكملته لتاريخ الخلاص بأجمعه. أيوب المتألم هو أيقونة العهد القديم للمسيح. وتعلن هذه القراءة السر العظيم لآلام المسيح وطاعته وتضحيته.
التركيب الطقسي لهذه الأيام الثلاثة ما زال من النوع الصيامي فهي تتضمن إذاً صلاة أفرام السرياني مع السجدات, وزيادة في قراءة المزامير, والقداس السابق تقديسه, والترانيم الصيامية. إننا ما نزال في وقت الندامة, الندامة التي وحدها تجعلنا مشاركين لفصح ربنا, وتفتح لنا أبواب الوليمة الفصحية. وبعدها في يوم الأربعاء العظيم والمقدس, في نهاية آخر قداس بروجزماني, بعد أن نقلت القدسات من المذبح, يقرأ الكاهن لأخر مرة صلاة أفرام. تنتهي في هذه اللحظة فترة التهيئة إذ إن الرب يدعونا لعشائه الأخير.

الخميس: العشاء الأخير
يتميز قداس الخميس العظيم بحدثين: عشاء الرب الأخير مع تلاميذه وخيانة يهوذا. معنى الاثنين هو في المحبة. العشاء الأخير هو ذروة الكشف لمحبة الله الفادية الإنسان, المحبة التي هي جوهر الخلاص الأساسي. وخيانة يهوذا تكشف أن الخطيئة, الموت, قتل الذات, هي أيضاً ناتجة عن المحبة, المحبة المنحرفة والمشوهة, المحبة الموجهة نحو شيء لا يستحق المحبة. هنا يكمن سر هذا اليوم الفريد وطقوسه حيث يختلط بغرابة النور والظلام, الفرح والحزن, يتحدونا بالاختيار الذي عليه يتوقف المصير الأبدي لكل واحد منا.

(أما يسوع قبل عيد الفصح وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الأب إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم أحبهم إلى المنتهى..) (يو1:13) لنفهم معنى العشاء الأخير, علينا أن نراه كالنهاية الأخيرة لتدبير المحبة الإلهية العظيم الذي بدأ بخلق العالم وما هو الآن يكتمل بموت المسيح وقيامته.

الله محبة (1يو 8:4). وأول عطية المحبة كانت الحياة. والشركة كانت فحوى الحياة وجوهرها. ليحيا الإنسان, وجب عليه أن يأكل ويشرب ويشارك العالم, وهكذا كان العالم المحبة الإلهية التي صارت طعاماً وجسداً للإنسان, ولما كان الإنسان حياً أي مشاركة للعالم, وجب عليه أن يكون في شركة مع الله, أن يكون الله معنى حياته وجوهرها ونهايتها. فالشركة مع العالم, عطية الله, هي بالواقع شركة مع الله نفسه. لقد أخذ الإنسان طعامه من الله وإذ يجعل منه جسده وحياته فهو يرفع العالم كله لله محولاً إياه لحياة الله ومعه. محبة الله أعطت حياة للإنسان ومحبة الإنسان لله حولت هذه الحياة إلى شركة مع الله. هذا كان في الجنة. كانت الحياة فيها تسبحة شكر (إفخارستيا). الخليقة كلها تقدست بالإنسان وبمحبته لله وتحولت إلى سر واحد شامل للحضور الإلهي وكان الإنسان كاهن هذا السر.

ولكن, بالخطيئة أضاع الإنسان هذه الحياة الشكرية (إفخارستيا). أضاعها لأنه توقف عن رؤية العالم كواسطة للشركة مع الله وعن رؤية حياته كإفخارستيا وعبادة وشكر. لقد أحب نفسه وأحب العالم من أجل ذاتهما, وجعل نفسه جوهر حياته ونهايتها. لقد ظن أن جوعه وعطشه أي اعتماد حياته على العالم – يمكنهما أن يشبعا من العالم وبالطعام بحد ذاتهما. ولكن عندما نُفرغ العالم والطعام من معناهما السري الأصيل كواسطة للشركة مع الله, عندما لا نقبلهما من أجل الله ولا نملؤهما بالجوع والعطش لله, وبكلمة أخرى عندما لا يكون الله بُعدَ محتواهما الحقيقي, فلا يمكنهما أن يعطيا أية حياة أو يشبعا أي جوع لأنهما لا يملكان حياة في ذاتهما… وهكذا عندما يحبهما الإنسان ينحرف حبه عن الغاية الوحيدة التي هي موضوع كل حب وكل جوع وكل رغبة. مات الإنسان لأن الموت (تفكك) لا مفر منه للحياة المقطوعة عن منبعها الوحيد ومحتواها الوحيد. لقد ظن الإنسان أنه يجد حياة في العالم وفي الطعام ولكنه وجد الموت وأصبحت حياته شركة مع الموت لأنه بدل أن يحول العالم بالإيمان والمحبة والعبادة إلى شركة مع الله, أخضع ذاته بكليتها للعالم وبدل أن يكون كاهن العالم, أصبح عبداً له. بخطيئة العالم أصبح العالم كله مقبرة يشارك فيها المحكومون بالموت, الموت.

(وجلسوا في كورة الموت وظلاله) (متى 16:4).

ولكن إن خان الإنسان فقد بقي الله أميناً للإنسان ولم (يرفض جبلته التي صنعها رفضاً نهائياً ولم ينس عمل يديه, بل افتقده بأساليب كثيرة بأحشاء رحمته) (قداس باسيليوس). لقد ابتدأ عمل إلهي جديد وهو عمل الفداء والخلاص الذي تم في المسيح ابن الله الذي أخذ طبيعتنا بجوعها وعطشها ورغبتها للمحبة والحياة ليعيد الإنسان إلى جماله الأصلي ويعيد الحياة كشركة مع الله. في المسيح انكشفت الحياة وأعطيت وقبلت وتمت كإفخارستيا كاملة وكلية, كشركة مع الله أيضاً كاملة وكلية. لقد رفض المسيح التجربة الإنسانية الأساسية: أن يحيا (بالخبز وحده) وكشف أن ملكوت الله هو طعام الإنسان الحقيقي وحياته الحقيقية. وهذه الحياة الشكرية الكاملة, المملوءة بالله, أي إلهية وخالدة, أعطاها المسيح لكل الذين يؤمنون به أي الذين وجدوا فيه معنى حياتهم وجوهرها. هذا هو المعنى الرائع للعشاء الأخير. أنه أعطى ذاته كطعام حقيقي للإنسان لأن الحياة التي ظهرت فيه هي الحياة الحقيقية. وهكذا يأتي تدبير المحبة الإلهية الذي ابتدأ في الفردوس بالكلمة الإلهية (خذوا, كلوا… (لأن الطعام هو حياة الإنسان) إلى (النهاية) بالكلمة الإلهية (خذوا كلوا هذا هو جسدي…) (لأن الله هو حياة الإنسان…). العشاء الأخير هو إعادة فردوس النعيم وإعادة الحياة كشركة واتحاد.

ولكن ساعة ذروة المحبة هذه هي أيضاً ساعة ذروة الخيانة. يهوذا يترك نور العلية ويذهب إلى الظلمة. (وكان ليل) (يو30:13) لماذا يترك ؟ يجيب الإنجيل لأنه يحب ذاك الحب المشؤوم الذي تشدد عليه مراراً ترانيم الخميس العظيم. لا فرق بالواقع إن أحب (الفضة). المال هنا يرمز إلى كل حب منحرف ومشوه يقود الإنسان إلى خيانة الله. إنه بالواقع الحب المسروق من الله ويهوذا إذاً هو السارق. عندما لا يحب الإنسان الله وبالله – يبقى يحب ويرغب لأنه خلق ليحب والحب هو طبيعته – ولكنه الحب عند ذاك شهوة هدامة ومظلمة نهايتها الموت. وفي كل سنة عندما نغطس أنفسنا في عمق نور الخميس العظيم الذي لا يسبر يتوجه إلى كل واحد منا السؤال الحاسم نفسه: هل أجيب محبة المسيح وأقبلها كحياة لي أو أتبع يهوذا إلى ليله المظلم ؟

يحتوي قداس الخميس العظيم على

1- سحرية

2- غروب وبعدها قداس باسيليوس

هناك عادة في الكاتدرائيات أن تقام خدمة غسل الأرجل بعد الليتورجيا.

فبينما يقرأ الشماس الإنجيل (الإنجيل الذي يروي الغسل) يغسل الأسقف أرجل اثني عشر كاهناً مذكراً إيانا بمحبة المسيح التي هي أساس الحياة في الكنيسة والتي تطبع كل العلاقات فيها. وفي يوم الخميس العظيم أيضاً يُحضِّر رؤساء الكنائس المستقلة الميرون المقدس. وهذا يعني أيضاً أن محبة المسيح الجديدة هي الهبة التي نأخذها من الروح القدس يوم دخولنا إلى الكنيسة (المعمودية).

في السحرية يظهر موضوع اليوم في الطروبارية: التضاد بين محبة المسيح ورغبة يهوذا النهمة.

عندما كان التلاميذ المجيدون في غسل العشاء مستنيرين. حينئذ يهوذا الردي العبادة مرض بمحبة الفضة وأظلم. وللقضاة العادمي الناموس دفعك أيها الحاكم العادل وسلم. فيا عاشق الأموال أنظر إلى الذي من أجلها مارس الشنق. واهرب من النفس الفاقدة الشبع التي تجاسرت بمثل هذا على المعلم. فيا من صلاحه شامل الكل. يا رب المجد لك.

بعد قراءة الإنجيل (لو1:12- 4) نتأمل معنى العشاء الأخير السري والأبدي في قانون القديس قوزما الجميل. ويدعونا (أرمس) القانون الأخير (الأودية التاسعة) إلى المشاركة بوليمة الرب:

هلموا أيها المؤمنون. لنتمتع بوليمة سيدية ومائدة غير مائتة. في مكان عليّه متلقفين بعقول سامية, أقوالاً فائقة من الكلمة الذي إياه نعظم).

في الغروب, تشدد الاستيشارات التي تقرأ على (يا رب إليك صرخت) على ضد – الذروة الروحي للخميس العظيم أعني به خيانة يهوذا:

إن يهوذا العبد الغاش. التلميذ المغتال. الصديق المحتال. قد استبان من أفعاله. لأنه كان يتبع المعلم ويضمر بذاته التسليم…

ثم نقرأ بعد الإيصودون ثلاث قراءات من العهد القديم:

خروج 10:19- 19. نزول الله من جبل سيناء إلى شعبه كصورة لمجيء المسيح في الإفخارستيا (القداس الإلهي)
أيوب 1:38- 23 و1:42- 5, محاورة الله مع أيوب وجواب هذا الأخير. (إني قد نطقت بما لا أدرك بمعجزات تفوقني ولا أعلمها). هذه المعجزات العظيمة قد تمت بإعطاء المسيح لنا جسده ودمه.
أشعياء 4:5- 11, بداية النبوءات عن عبد الله المتألم.

الرسالة هي من 1كورنثوس23:11- 32 وتعطي وصف بولس للعشاء الأخير ومعنى المناولة.

الإنجيل, مأخوذ من الأناجيل الأربعة, وهو القصة الكاملة للعشاء الأخير وخيانة يهوذا والقبض على يسوع في البستان. إنه أطول أناجيل السنة.

ونرتل بدل الشيروبيكون والكينونيكون ترنيمة المناولة.

(اقبلني اليوم شريكاً لعشائك السري يا ابن الله. لأني لست أقول سرك لأعدائك. ولا أعطيك قبلة غاشة مثل يهوذا. لكن كاللص أعترف لك هاتفاً. أذكرني يا رب في ملكوتك).

الجمعة: الصليب

من نور الخميس العظيم ندخل إلى ظلمة الجمعة, يوم آلام المسيح وموته ودفنه. سمي هذا اليوم في الكنيسة الأولى بـ (فصح الصليب) لأنه هو بالواقع بداية الفصح أو العبور الذي سيتضح معناه لنا تدريجياً: أولاً في روعة صمت السبت العظيم والمبارك وثانياً في فرح يوم القيامة.

الظلمة: ليتنا ندرك أن الجمعة العظيم ليس فقط مجرد رمز للظلمة وتذكراً لها. غالباً ما ننظر إلى حزن هذه الخدم الجميل والمهيب بروح القداسة الذاتية والتبرير الذاتي. لألفي سنة مضت قتل أناس شريرون المسيح, أما اليوم فنحن مسيحيون طيبون نقيم نعوشاً فخمة في كنائسنا – أليس هذا دلالة على طيبتنا ؟ ومع ذلك الجمعة العظيم لا يبحث في أمور ماضية. إنه يوم الخطيئة, يوم الشر, اليوم الذي فيه تسألنا الكنيسة أن ندرك رهبة الخطيئة والشر وقوتهما في (هذا العالم). لأنهما لم يختفيا بعد ولكنهما ما زالا يشكلان القاعدة الأساسية للعالم ولحياتنا. ونحن الذين نسمي أنفسنا مسيحيين, ألا نجعل غالباً منطقنا كمنطق الشر الذي قاد المجمع اليهودي, وبيلاطس البنطي والجنود الرومانيين والحشود إلى كره المسيح وتعذيبه وقتله ؟ في أي جانب وإلى أي جهة نقف لو كنا عائشين في أورشليم أيام بيلاطس ؟ هذا هو السؤال الذي يتوجه إلينا في كل كلمة من خدم الجمعة العظيم. إنه بالحقيقة يوم هذا العالم, يوم دينونته الحقيقية لا الرمزية ويوم دينونة لحياتنا حقيقية لا طقسية… إنه كشف لطبيعة العالم الحقيقية, العالم الذي فضَّل آنذاك وما زال يفضل الظلمة على النور, الشر على الخير والموت على الحياة. (إن هذا العالم) الذي أدان المسيح للوت أدان نفسه للموت. ونحن بقدر ما نقبل روحه, وخطيئته وخيانته لله بقدر ما نكون مدانين. هذا هو المعنى الواقعي الرهيب ليوم الجمعة العظيم: دينونة الموت…

ولكن يوم الشر هذا بذروة ظهوره ونصره هو أيضاً يوم الفداء, لأن موت المسيح قد ظهر موتاً خلاصياً لنا ولخلاصنا.

إنه موت خلاصي لأنه موت التضحية المطلقة, الكلية والكاملة. المسيح يعطي موته لأبيه ويعطيه أيضاً لنا, لأبيه, لأنه كما سنرى – لا طريق آخر لتحطيم الموت, لتخليص الإنسان منه وإنها إرادة الآب أن يخلص الإنسان من الموت. ولنا, لأنه بالحقيقة مات المسيح بدلاً منا. الموت هو ثمرة الخطيئة الطبيعية, دينونة متأصلة فيه. لقد اختار الإنسان أن يبتعد عن الله دون أن يملك حياة في ذاته فمات. ومع ذلك فلا خطيئة بالمسيح, إذاً لا موت فيه. ولكنه قبل أن يموت محبة بنا فقط. أراد أن يأخذ وضعنا البشري ويشارك فيه للنهاية. قَبِل عقاب طبيعتنا وحَمَلَ أثقال الحالة البشرية. مات لأنه وجد نَفسه حقيقة معنا وأخذ على نفسه مأساة حياة الإنسان. إن موته هو ذروة الكشف لرحمته ومحبته. ولأن موته هو محبة, رحمة وتألم معنا, فطبيعة الموت نفسها قد تغيرت. كان دينونة فأصبح عملاً مشعاً بالمحبة والغفران ونهاية لكل ابتعاد وعزلة. لقد تحولت الدينونة إلى غفران…

وبالنهاية موت المسيح موت خلاصي لأنه يحطم نبع الموت نفسه: الشر. إن المسيح باقتباله الموت بمحبة, وبإسلامه نفسه لقاتليه وتسامحه بظفرهم الظاهري يكشف بالحقيقة أن هذا النصر هو اندحار الشر الحاسم والنهائي لينتصر الشر, عليه أن يعدم الخير وأن يبرهن ذاته أنه بالحقيقة المطلقة للحياة ويخزي الخير وبكلمة واحدة أن يظهر تفوقه. ولكن خلال الآلام كلها, المسيح وحده هو المنتصر. الشر لا يستطيع أن يعمل أي شيء ضده لأنه عاجز. إن يسوع المسيح يقبل الشر كحقيقة. لقد ظهرت المراآة كمراآت والقتل كقتل والخوف كخوف, وكلما تقدم المسيح صامتاً من صليبه ومن النهاية كلما اقتربت المأساة الإنسانية من ذروتها. وينجلي أكثر فأكثر انتصاره ومجده وغلبته على الشرير.

وفي كل مرحلة نجد أن هذا النصر يُعلن ويُعترف به, يعترف به كل من زوجة بيلاطس, ويوسف, واللص المصلوب, وقائد المئة. عندما يموت المسيح على الصليب قابلاً ذروة رهبة الموت: عزلة مطلقة (إلهي, إلهي لماذا تركتني ؟!) لا شيء يبقى إلا الاعتراف (إنه بالحقيقة كابن الله…) وهكذا فإن الموت, هذا الحب, هذه الطاعة, هذا الفيض من الحياة, هي التي تحطم من جعل الموت المصير العام. (وتفتحت القبور…) (متى52:27). منذ الآن تظهر شعاعات القيامة.

هذا هو السر المزدوج للجمعة العظيم. السر الذي تظهره خدم الجمعة أيضاً وتجعلنا نشترك فيه. فمن جهة, هناك التشديد الدائم على آلام المسيح كخطيئة الخطايا وجريمة الجرائم. فأناجيل الآلام الاثنا عشر التي نقرؤها في السحرية تجعلنا نتبع المسيح المتألم خطوة خطوة. وفي الساعات (التي تأخذ محل القداس الإلهي: لأن الامتناع عن إقامة الليتورجيا في هذا اليوم يعني أن سر حضور المسيح لا يخص (هذا العالم), عالم الخطيئة والظلمة, بل هو سر (العالم الآتي)) وأخيراً في خدمة جناز المسيح, القراءات والترانيم مملوءة بالاتهامات الهائلة لأولئك الذين بحريتهم واختيارهم قرروا المسيح مبررين هذا القتل بسبب ديانتهم وولائهم السياسي واعتباراتهم العملية وطاعتهم المهنية.

ولكن من جهة ثانية, ذبيحة الحب التي تهيئ النصر الأخير هي حاضرة منذ البداية. فمن قراءة أول إنجيل (يوحنا31:13) التي تبدأ بإعلان المسيح الجليل (الآن يتمجد ابن الإنسان وقد تمجد الله فيه) إلى الاستيشارة في آخر الغروب – هناك ازدياد النور والنمو البطيء للرجاء واليقين أن (الموت سيحطم الموت)!

إذ رأتك يا منقذ الكل. في قبر جديد الجحيم المهزوء جداً بها. موضوعاً من أجل الكل ارتاعت خائفة. وأقفالها والأبواب حطمت تحطيماً. والقبور فتحت والموتى نهضوا. والفرحان آدم إذ ذاك. يا محب البشر ناداك شاكراً المجد لتنازلك.

ولما نضع في نهاية الخدمة, صورة المسيح في القبر, في وسط الكنيسة, لما ينتهي هذا اليوم الطويل, نعرف أننا في نهاية التاريخ الطويل للخلاص والفداء, ويأتي مع اليوم السابع, يوم الراحة, السبت المبارك, ظهور القبر المحيي…

هذا هو السبت المبارك

إن (السبت العظيم والمقدس) هو اليوم الذي يربط الجمعة العظيم, ذكرى الصليب, بيوم القيامة, وبالنسبة لكثيرين, جوهر هذا (الربط) الحقيقي ومعناه, والضرورة نفسها لهذا (اليوم الوسط) تبقى غامضة. لأنه بالنسبة لأغلبية المترددين إلى الكنيسة (أهم) أيام أسبوع الآلام هي الجمعة والأحد, الصليب والقيامة. على كل حال يبقى هذان اليومان بطريقة ما (منقطعين). هناك يوم حزين ومن ثم يوم فرح. وفي هذا التعاقب, الحزن يستبدل بسذاجة بالفرح. ولكن حسب تعليم الكنيسة المعبر عنه في تقليدها الطقسي, جوهر هذا التعاقب ليس بسذاجة الاستبدال. الكنيسة تعلن أن المسيح (حطم الموت بالموت) وهي تعني أنه حتى قبل القيامة يقوم حدث لا يستبدل فيه الحزن بالفرح وحسب ولكن الحزن نفسه يتحول إلى فرح. السبت العظيم هو بالضبط يوم التحويل هذا, اليوم الذي فيه ينمو النصر من داخل الهزيمة. والذي فيه تُعطى, حتى قبل القيامة, أن نتأمل موت الموت نفسه. كل هذا مُعبر عنه, لا بل يقوم حقيقة كل سنة, في تلك السحرية الرائعة في ذلك التذكار الطقسي الذي يصير لنا حضوراً محولاً ومخلصاً.

عندما نأتي إلى الكنيسة في صباح السبت المقدس يكون يوم الجمعة قد اكتمل طقسياً. إذاً حزن الجمعة هو الموضوع الأولي, نقطة الانطلاق لسحرية السبت. إنها تبدأ كجنازة ونحيب على ميت, وبعد ترنيم طروبارية الجناز, وتبخير بطيء للكنيسة, يقترب الكاهن من الابيطافيون (أيقونة الدفن). إننا الآن نقف عند قبر سيدنا متأملين موته وانهزامه. عندما نرنم المزمور 118 ولكل آية نضيف (تسبحة) تعبر عن رهبة الإنسانية والخليقة كلها أمام موت يسوع ؟

ومع ذلك منذ البداية, بجانب موضوع الحزن والنحيب الأولي, يبدأ موضوع آخر ظهورَه ويصبح فيما بعد أكثر ظهوراً. هذا الموضوع الجديد نجده في المزمور 118 (تبارك الذين لا يعثرون في الطريق الذين يسلكون في فرائض الرب). إننا نستعمل هذا المزمور في طقوسنا فقط في خدم الجنازة ومن هنا جاء طابعه (الجنائزي) بالنسبة للمؤمن العادي. ولكن كان هذا المزمور في التقليد الطقسي القديم جزءاً أساسياً من سهرانة الأحد (سحرية + غروب). التذكار الأسبوعي لقيامة المسيح. إن محتواه ليس جنائزياً البتة وهو أنقى وأكمل تعبير عن المحبة لشرائع الرب أي التصميم الإلهي للإنسان وحياته. حياة الإنسان الحقيقية التي أضاعها بالخطيئة, هي الحياة مع الله, ولله, الحياة التي من أجلها خلق الإنسان.

بطريقة شهادتك سررت كالحاصل على كل ثروة… (مز 118: آية 14) بأحكامك أتلذذ (مز 118: آية 16).

وبما أن المسيح هو صورة لكمال إتمام هذه الشريعة وبما أن (جوهر) حياته لم يكن إلا إتمام إرادة الرب, فالكنيسة تفسر هذا المزمور ككلام المسيح نفسه الموجه إلى أبيه من القبر. (مز 118: آية: 159): (أنظر كيف أحببت أوامرك. أحيني يا رب بحسب رحمتك).

إن موت المسيح هو البرهان الأكبر لمحبته, لإرادة الله وطاعته لأبيه. إنه عمل طاعة محض, عمل ثقة كاملة بإرادة الآب. وبالنسبة للكنيسة هذه الطاعة إلى النهاية, هذا التواضع الكامل الذي أبداه الابن, هو الذي يشكل أساس نصره وبدايته. الآب يرغب هذا الموت والابن يقتبله مظهراً إيماناً غير مشروط في إرادة الآب الكاملة وفي ضرورة تضحية الابن هذه بواسطة الآب. المزمور 118 هو مزمور الطاعة وبالتالي الإعلان أن النصر إنما يبدأ بالطاعة.

ولكن لماذا يرغب الآب هذا الموت لماذا هو ضروري ؟ إن الجواب على هذين السؤالين يشكل الموضوع الثالث لخدمتنا ويظهر أولاً في (التسبيحات) التي تلي كل آية من المزمور 118. إنها تصف موت المسيح كنزول إلى الجحيم. (الجحيم) باللغة الكتابية الأصلية تعني عالم الموت أي حالة ظلمة ويأس وفناء. وبما أنها عالم الموت الذي لم يخلقه الله ولم يرده, فهي تعني أيضاً أن رئيس هذا العالم عظيم القوة فيه. الشيطان, الخطيئة, الموت هذه هي (أبعاد) الجحيم وجوهره. لأن الخطيئة تأتي من الشيطان والموت هو نتيجة الخطيئة – (الخطيئة دخلت إلى العالم. والموت دخل بالخطيئة) (رومية 12:5). الموت ملك منذ آدم إلى موسى) (رو 14:5) والكون كله أصبح مقبرة كونية وأُدين إلى اليأس والفناء. لهذا السبب, الموت هو (آخر عدو) (1كو20:15) وذروة التجسد غايتها أن تحطمه. هذه المجابهة مع الموت هي (ساعة) المسيح التي قال عنها (لأجل هذه الساعة أتيت) (يو 27:12). والآن قد أتت هذه الساعة وابن الله يدخل إلى الموت. يصف الآباء عادة هذه اللحظة كالنزال بين المسيح والموت, بين المسيح والشيطان. هذا الموت إما أن يكون النصر الأخير للشيطان أو انهزامه النهائي. ويتطور النزال في عدة مراحل. في البدء نجد أن قوى الشر تنتصر. فالصديق مصلوب ويتركه الجميع ويحتمل الموت اللعين ويصبح أيضاً مشاركاً في الجحيم مكان الياس والظلمة… ولكن في هذه اللحظة بالذات يظهر المعنى الحقيقي لهذا الموت. الذي يموت على الصليب له الحياة في ذاته أي له الحياة ليس كهبة من الخارج, كعطية يمكن أن تؤخذ منه, ولكنها ملكه كجوهرة. لأنه هو الحياة ونبع الحياة. (فيه كانت الحياة والحياة نور الناس). الإنسان يسوع يموت, ولكن هذا الإنسان هو ابن الله. كإنسان يمكن أن يموت حقاً ولكن فيه يدخل الله نفسه عالم الموت ويشارك الموت, هذا هو المعنى الفريد الذي لا مثيل له لموت المسيح. الإنسان الذي يموت فيه هو الله أو بعبارة أخرى أدق الإله – الإنسان. الله هو القدوس الأزلي وفقط في وحدة الله والإنسان (بدون اختلاط أو تغيير أو انقسام أو انفصال) في المسيح يستطيع الله أن يحمل الموت البشري ويتغلب عليه ويحطمه من الداخل (ويدوسه بالموت).

الآن نفهم لماذا رغب الله ذلك الموت ولماذا أسلم الآب ابنه الوحيد له. إنه يرغب في خلاص الإنسان أي أن تحطيم الموت لن يكون عملَ قوته (أتظن أني لا أستطيع أن أسأل أبي فيقيم لي في الحال أكثر من اثنتي عشرة جوقة من الملائكة) ؟ (متى53:26), عملَ عنف ولو كان مخلصاً بل عمل بمحبة وحرية وتكريس حر لله الذي من اجله خلق الإنسان. لأن أي خلاص آخر سيتناقض مع طبيعة الإنسان وبالتالي ليس خلاصاً حقيقياً ولذا كانت ضرورة التجسد وضرورة الموت الإلهي. في المسيح يستعيد الإنسان طاعته ومحبته. وفيه يغلب الإنسان الخطيئة والشر. كان ضرورياً ألا يتحطم الموت بالله وحسب ولكن أن يغلب ويداس بالطبيعة الإنسانية نفسها, بالإنسان وخلاله (لأنه بما أن الموت بإنسان فبإنسان أيضاً قيامة الأموات) (1كو21:15).

قبل المسيح الموت بحريته وقد قال إن حياته (لا أحد يأخذها منه ولكنه يبذلها باختياره) (يو18:10). ولكنه لا يبذلها بدون عراك (وطفق يحزن ويكتئب) (متى37:26). هنا يتم مقياس طاعته وإذاً هنا يمكن تحطيم أصل الموت الأخلاقي, الموت كفدية للخطيئة. حياة المسيح كلها هي في الله كما يجب أن تكون حياة كل إنسان, هي تلك الحياة الكاملة, المملوءة معنى مملوءة من الله والتي تغلب الموت وتحطم قوته. لأن الموت هو فوق كل شيء نقص حياة, هدم حياة قطعت نفسها عن منبعها الوحيد. وبما أن موت المسيح هو حركة حب متجهة نحو الله, عمل طاعة وثقة وإيمان وكمال فهو عمل حياة) (أيها الآب بين يديك أستودع روحي). لو 26:23) يحطم الموت. إنه موت الموت نفسه… هذا هو معنى نزول المسيح إلى الجحيم ومعنى موته الذي صار نصراً. ونور هذا النصر ينير الآن صلواتنا أمام القبر.

لئن مت يا رب وسكنت قبراً

إلا أنك حللت سلطان الموت منهضاً من الجحيم المائتين

في قبر وضعت يا يسوع الحياة

لكنك ضمحلت الموت بموتك وأنبعت الحياة للعالمين

يا لها من لذة يا له من فرح

بهما غمرت من كانوا في الجحيم إذ أضئت في أقصى ظلماتها

الحياة تدخل مملكة الموت. والنور الإلهي يشع في ظلامه المخيف, يشع إلى الذين هناك, لأن المسيح هو حياة الكل والنبع الوحيد لكل حياة. لذلك هو يموت أيضاً من أجل الكل لأن كل ما يحدث لحياته – يحدث أيضاً للحياة نفسها… هذا النزول إلى الجحيم هو لمجابهة حياة الكل لموت الكل

للأرض انحدرت لتنجي آدما

ولما لم تجده فيها يا سيد نزلت إلى الجحيم تطلبه

الحزن والفرح يتصارعان, وها هو الفرح على وشك أن يربح. لقد انتهت (التسبيحات) وكذلك انتهى الصراع بين الحياة والموت ولأول مرة تطن ترنيمة النصر والفرح. إنها تدوي في الطروبارية على مزمور 118 التي نرنمها في سحرية كل أحد, عند اقتراب يوم القيامة:

(جمع الملائكة إنذهل متحيراً عند مشاهدته إياك محسوباً بين الأموات أيها المخلص. داحضاً قوة الموت ومنهضاً آدم معك ومعتقاً إيانا من الجحيم كافة…)

(إن الملاك اللامع عند القبر, تفوه نحو حاملات الطيب قائلاً: لما تمزجن الطيوب بالدموع بترث يا تلميذات ؟ أنظرن اللحد وافرحن لأن المخلص قد قام من القبر…)

يأتي بعدها قانون السبت العظيم الجميل الذي نجد فيه مرة أخرى موضوعات هذه الخدمة كلها – من الجنازة إلى الغلبة على الموت – تتكرر وتتعمق. وينتهي القانون هكذا:

(ليفرح كل البرايا. والذين في الأرض. إذ الجحيم والعدو سُبيا معاً. ولتستقبلني بالطيوب النسوة. لأني سأنجي آدم وحوا ونسلهما وأنهض في اليوم الثالث.)

(وفي اليوم الثالث يقوم أيضاً). من الآن وصاعداً يضيء في الخدمة فرح القيامة. إننا ما نزال واقفين أمام القبر ولكنه قد ظهر قبراً محيياً. الحياة ترتاح فيه. خليقة جديدة تولد. ومرة ثانية في اليوم السابع, يوم الراحة – يرتاح الخالق من كل أعماله. (الحياة ينام والجحيم يرتجف – ونحن نتأمل السبت المبارك, الصمت المهيب, صمت ذلك الذي يعيد الحياة لنا: (هلموا نشاهد حياتنا مرتاحاً في القبر…). الآن يظهر لنا المعنى الكامل والعمق الروحي لليوم السابع كيوم إتمام, كيوم إنجاز لأن

(موسى العظيم قد سبق فرسم هذا اليوم سرياً بقوله: هذا هو السبت المبارك, هذا هو يوم الراحة الذي فيه استراح ابن الله الوحيد من كل أعماله…)

والآن ندور حول الكنيسة بطواف جليل حاملين الابيطافيون – ولكنه ليس طوافاً جنائياً: إنه ابن الله, القدوس الذي لا يموت الذي يمر خلال ظلمة الجحيم معلناً لـ (آدم كل جيل) فرح القيامة المقترب. (مشرقاً كالصباح من الليل), يعلن أن (الموتى كلهم سيقومون وأن كل الذين في الجحيم سيحيون وكل الخلائق ستبتهج…

ونعود إلى الكنيسة وقد عرفنا مسبقاً سر موت المسيح المحيي. الجحيم يتحطم والآن يظهر الموضوع الأخير – موضوع القيامة.

يتم السبت, اليوم السابع, ويُنجز تاريخ الخلاص. وعمله الأخير هو غلبة الموت. أما بعد السبت فيأتي اليوم الأول لخليقة جديدة ولحياة جديدة بزغت من القبر.

إن البروكيمنن يدشن موضوع القيامة:

(قم يا رب أعنا وخلصنا لمجد اسمك يا الله. لقد سمعنا بآذاننا…)

ويتتابع الموضوع في القراءة الأولى: نبوءة حزقيال عن العظام الجافة (إصحاح 37) (… فإذا هي كثيرة جداً على وجه البقعة وإذا بها يابسة جداً). إنه الموت منتصر في العالم, إنها الظلمة, إنها الخيبة لتلك الدينونة العالمية للموت. ولكن الله يكلم النبي. إنه يعلن أن تلك الدينونة ليست مصير الإنسان الأخير. العظام اليابسة ستسمع كلمة الرب. الموتى سيحيون). هاأنذا أفتح قبوركم وأصعدكم من قبوركم يا شعبي وآتي بكم إلى أرض إسرائيل) (حزقيال 12:37). وبعد هذه القراءة يعلن البروكيمنن الثاني الدعاء نفسه والصلاة نفسها.

(قم أيها الرب إلهي ولترتفع يدك…)

كيف ستحدث هذه القيامة العامة وكيف هي ممكنة ؟ تجيبنا على هذا القراءة الثانية (1كورنثوس 6:5 وغلاطية 13:3- 14) (الخميرة الصغيرة تخمر العجين كله…) المسيح فصحنا هو خميرة قيامة الكل. كما أن موته يحطم أساس الموت نفسه, كذلك قيامته هي عربون قيامة الكل لأن حياته هي نبع كل حياة. وتؤكد آيات الـ (هللويا), الآيات التي تبدأ خدمة الفصح, هذا الجواب الأخير, ذاك اليقين أن زمن الخليقة الجديدة والنهار الذي لا يغرب قد بدأ:

(هللويا). ليقم الله ويتبدد جميع أعدائه ويهرب مبغضوه من أمام وجهه… هللويا ! كما يباد الدخان يبادون وكما يذوب الشمع من أمام وجه النار:

انتهت قراءة النبوءات ولم نسمع إلاّها. إننا الآن ما نزال في السبت العظيم أمام قبر المسيح. وعلينا أن نقضي هذا اليوم الطويل قبل أن نسمع عند منتصف الليل (المسيح قام), قبل أن ندخل إلى الاحتفال بقيامته. هكذا تخبرنا القراءة الثالثة – متى 62:27- 66 التي تختم الخدمة, مرة أخرى عن القبر – (الذي حفظ بختم الحجر وإقامة الحراس).

ولكن من الممكن هنا, في نهاية السحرية, أن يظهر المعنى العميق لهذا (اليوم الوسط). لقد قام المسيح أيضاً من بين الأموات وسنحتفل بقيامته في يوم الفصح. ولكن هذا الاحتفال, رغم أنه يقيم تذكار حدث ماض, يسهم مسبقاً في سر مقبل. إنها قيامته هو وليست قيامتنا بعد. علينا نحن أن نموت. أن نقبل الموت, الانفصال, الهدم. حقيقتنا في هذا العالم, في هذا (الدهر) هي حقيقة السبت العظيم الذي هو صورة حقيقية عن واقعنا الإنساني. نحن نؤمن بالقامة, لأن المسيح قام من بين الأموات. إننا نترقب القيامة, ونعرف أن موت المسيح أعدم الموت وليس الموت بعد, الخيبة ونهاية كل شيء. إذ قد اعتمدنا لموت المسيح فنحن نشارك مسبقاً بحياته التي بزغت من القبر. إننا نأخذ جسده ودمه اللذين هما خبز الأبدية, وعندنا في أنفسنا علاقة الاشتراك مسبقاً في الحياة الأبدية… تقاس حياتنا المسيحية كلها بأعمال الاتحاد في حياة (دهر الملكوت الجديد…) ومع ذلك فنحن ما زلنا هنا والموت هو نصيبنا الذي لا مفر منه.

ولكن هذه الحياة بين قيامة المسيح ويوم القيامة العامة, أليست هي بالضبط حياة السبت العظيم؟ أليس التوقع هو الأساس والجوهر لكل خبرة مسيحية ؟ إننا ننتظر بمحبة ورجاء وإيمان. وهذا الانتظار لـ (قيامة العالم الآتي وحياته), هذه الحياة (المستترة مع المسيح في الله) (كولوسي 3:3- 4), هذا الترقب النامي بمحبة ويقين, هذه كلها هي (سبتنا العظيم). شيئاً فشيئاً يصبح كل شيء في هذا العالم شفافاً للنور الذي يأتي من هناك, إن (هيئة هذا العالم) ستتغير وهذه الحياة التي لا تفنى مع المسيح تصبح هدفنا الأول والأخير.

ننتظر كل سنة في السبت العظيم, بعد هذه السحرية, ليل الفصح وكمال الفرح الفصحي. إننا نعرف أنهما يقتربان – ومع ذلك كم هو بطيء ذاك الاقتراب, وكم هو طويل هذا اليوم ! ولكن أليس صمت السبت الرائع رمزاً لحياتنا بالذات في هذا العالم ؟ ألسنا نحن دائماً في هذا (اليوم الوسط) منتظرين فصح المسيح, مهيئين أنفسنا ليوم ملكه الذي لا يغرب ؟

+++++++

+++++

+++

+

GoCarch