١١ كانون أول – القدّيس نيقون الكييفي – القدّيس البار دانيال العمودي العجائبيّ – القدّيس البار لوقا العمودي الجديد

March-3-2019

القدّيس نيقون الكييفي
كان راهبًا، وقع في أيدي التتار. جاء ذووه بمال جزيل ليفتدوه فقال لهم: “لا تضيّعوا مالكم عبثًا، لو شاء الربّ الإله أن أكون طليقًا لما أسلمني لأيدي الأشرار”. فانصرف ذووه خائبين وأمّا التتري الذي كان قابضًا عليه غضب لأنّه أفسد عليه فرصة الربح فصار يعذّبه دون هوادة، طيلة ثلاث سنوات.
خشي التتري على نيقون أن يهرب فقطع له أوتار رجليه ليمنعه من الركض وجعله تحت الحراسة. بعد ذلك بيومين كان آسروه جالسين بقربه والسلاح بأيديهم، فجأة، عند الساعة السادسة، اختفى من أمامهم وسمعوا صوتًا يقول: “سبحوا الربّ من السموات”، وإذ به يحطّ في كنيسة القدّيسة والدة الإله، في دير المغاور في كييف، تمامًا فيما كان الرهبان يقيمون الذبيحة الإلهيّة، ركض الجميع إليه وسألوه كيق جاء إليهم، فلم يجبهم. عاينوا الحديد في رجليه وعاينوا جراحه، وأخيرًا كشف لهم حقيقة أمره. لم يسمح لهم بنزع السلاسل إلا بعد إصرار. بعد أيام حضر التتري آسره إلى كييف لترتيب معاهدة سلام مع الحكّام فيها. وبعدما تمّ له ما أراد جاء إلى دير المغاور فوجد نيقون هناك فارتجّت نفسه واخبر بكلّ ما كان له معه. اهتدى واعتمد هو وعائلته وترهّب، وسلك بالتوبة متتلمّذًا لنيقون، وجعل نفسه عبدًا له بملء إرادته إلى أن رقد بسلام. كان نيقون إنسانًا رؤيويًّا وصانع عجائب، رقد بسلام في 11 كانون الأول سنة 1101م. وقد دعي ڊ”اليابس” لهزالة جسده ونقصان دمه، فأضحى كالعود اليابس.

القدّيس البار دانيال العمودي العجائبي
وُلد القدّيس دانيال العمودي سنة 409 م. ترهّب في سن الثانية عشرة. أمضى خمسة وعشرين عاما في الحياة الديرية. تنقّل بين أبرز نسّاك زمانه على مدى خمس سنوات. في سن الثانية والأربعين استقر في القسطنطينية.
أقام حبيسا في هيكل سابق للأوثان تسع سنوات. في سن الحادية والخمسين صعد على العمود. عاش عموديا بقية حياته. رقد في الرابعة والثمانين وثلاثة أشهر سنة 492 م.
اسم أبيه إيليا واسم أمهّ مرتا. هذان كانا من قرية صغيرة تدعى ميراثا في أرض سميساط من بلاد ما بين النهرين. كان أبواه سريانيين وكانت أنه عاقرا. زوجها والعشيرة كانوا يعيّرونها ومرتا كانت في مرارة النفس كل يوم من أيام عقرها.
مرة، في نصف الليل، خرجت من الدار وزوجها نائم، فبسطت ذراعيها إلى السماء وصلّت بحرارة ومرارة قلب ودموع :” أيها الرب يسوع المسيح، يا طويل الأناة على خطايا الناس. يا من خلق المرأة، في البدء، لتكاثر جنس البشر. أنت أرفع عنّي العار وامنحني ثمرة البطن لأقدّمه إليك، أنت سيد الخليقة “.
ولم تنقض أيام كثيرة حتى حبلت مرتا وأنجبت، في زمن الولادة، صبيا هو قديسنا، صاحب هذه السيرة.
لا نعرف بأي، أسم كان أبواه يدعوانه إلى سن الخامسة. في الخامسة أخذاه إلى دير في جوار القرية وقربّا عنه تقدمات من ثمار الحقل. سأل رئيس الدير والديه :” ما اسم الصبي؟ فذكرا إسما لم يحفظه التاريخ، فلم يرق له بل قال :” لا ، بل يسمى بالإسم الذي سوف يكشفه الله لنا”. على الأثر وجّه الرئيس كلامه إلى الصبي قائلا :” أذهب يا بني ، إلى الطاولة، هناك، وأتني بكتاب!” الطاولة كانت مقابل الهيكل وكانت عليها كتب مختلفة لاستعمال الرهبان. فركض الصبي وأمسك بأحد الكتب وعاد فإذا به نبوءة دانيال فدعي الصبي باسم نبي الله .
ورغب والدا دانيال إلى الرئيس أن يقيم الصبي عنده لأنه نذير للرب فلم يشأ.ولعلّ والديه أحبّا أن يفعلا بابنهما ما فعلته أم صموئيل بولدها (صموئيل 1 -2 )، ولكن لم تكن ساعته قد حانت بعد.
عاش الصبي في كنف والديه إلى سن الثانية عشرة. فلما سمع أمه تقول له، مرة :”يا بني، أنت نذير للرب. أنا نذرتك إليه”، قام فخرج من القرية دون أن يعلم أحد بأمره، وتوجهّ إلى دير يبعد عن القرية مسافة ستة عشر كيلومترا، فلما فتحوا له ووقف أما رئيس الدير ارتمى عند قدميه ورجاء أن يقبله في عداد رهبانه. كان في الدير خمسون راهبا. فتحفّظ الرئيس لأن دانيال كان صغير السن ولا طاقة له على احتمال قسوة الحياة الرهبانية. وإذ حاول صرفه واعدا إياه بأن يقبله في المستقبل متى أشتّد عوده، أجاب دانيال بإصرار :” خير لي أن أموت، يا أبتي، وأنا أكابد أتعاب الرهبنة من أن افارق الدير”.ولما لم يجد رئيس الدير سبيلا إلى إقناع الصبي بالعودة إلى بيته ولمس فيه رغبة جامحة لأقتبال الحياة الملائكية رضخ وقبله.
ولم يطل الزمان حتى اكتشف أبواه أنه في الدير، فماذا كان رد فعلهما؟ فرحا جدا وشكرا لله على تحننه على الصبي وعليهما ورجيا رئيس الدير أن يلبسه ثوب الرهبنة بسرعة لأنه لم يكن قد فعل إلى ذلك الوقت. فما كان من الرئيس سوى أن أرسل في طلب دانيال وسأله إذا كان يرغب في لبس الثوب الرهباني أم يفضّل تأجيل ذلك إلى ما بعد، فأجاب الصبي :” اليوم قبل الغد يا أبتي!”. لكني أخاف عليك يا بني لأن نظام حياتنا قاس!”. أنا أعلم أني صغير السن وضعيف لكني أثق بالله وبصلواتك أن من يقبل نيّاتنا هو يقوينا !”.
ولبس دانيال ثوب الرهبنة وانصرف والداه بعدما أوصاهما رئيس الدير بألا يزوراه إلا قليلا لئلا يعثراه ويجرحا سعيه الرهباني من حيث لا يدريان لأن الشيطان يستغل زيارات الأهل ليشوّق الراهب، وهو في التعب والجهاد، للعودة إلى العالم.
دانيال راهبا
أحرز دانيال تقدما كبير في أتعاب النسك زالصلاة. وكان رئيس الدير شغوفا به لا يكفّ عن مدحه. والرهبان ايضا كانوا يتعجّبون ويتحّيرون وربما يغارون. كل هذا سبّب لدانيال ضيقا كبيرا ففكّر بمغادرة الدير وزيارة المدينة المقدّسة، أورشليم، وكذلك القدّيس سمعان العمودي الذي كان خبره على كل شفة ولسان.دانيال، من ناحيته، كان يشعر برغبة جامحة في نفسه إلى السير في خطى هذا القدّيس العظيم.
ولكن لم يشأ رئيس الدير أن يعطي دانيال البركة لإتمام قصده، فسكت وأسلم نفسه لله قائلا إذا شاء الرب أن أخرج إلى هناك فهو يجد الطريقة لتحقيق ذلك.
ولم يمض وقت طويل حتى استدعى رئيس أساقفة إنطاكية كافة رؤساء الأديرة في الكرسي الإنطاكي إليه للبحث في أمر يهمّهم.
خرج رؤساء أديار بلاد ما بين النهرين إلى إنطاكية، لهذا الغرض، وكان بيتهم رئيس الدير الذي كان دانيال المغبوط نازلا فيه. ولحسن التدبير الإلهي أن رئيس الدير اصطحب دانيال مرافقا له في سفره.
اجتمع رؤساء الأديرة إلى رئيس أساقفة إنطاكية وحقّقوا الغاية التي دعوا من أجلها في وقت قصير. على الأثر قفل الجميع عائدين إلى ديره.
أما رؤساء أديرة ما بين النهرين فعادوا معا. وفي الطريق نزلوا في قرية اسمها تلانيسي كان فيها دير كبير جدا. الرهبان المسافرون ينزلون عادة في الأديرة التي يصادفونها. وكان القدّيس سمعان العمودي قد استقر في تلاسيني بعضا من الوقت، وفيها تدّرب على النسك. وكان موضع عموده بعيد عن المكان. وفي تلك الليلة التي نزل فيها القرية رؤساء “أديرة ما بين النهرين”، عرض الرهبان المحليّون لأخبار القدّيس سمعان، فما كان من الرؤساء الزائرين سوى أن استغربوا وأستهجنوا طريقة القدّيس سمعان وتكّلموا عليه بالسوء معتبرين نسكه ضربا من ضروب الإدعاء والمجد الباطل. ولكن أقنع رهبان الدير زوّارهم بأن يذهبو غدا إلى القدّيس سمعان وينظروا وبعد ذلك يحكمون.
خرج رؤساء الأديرة ومرافقوهم، وفي اليوم التالي، لزيارة القدّيس سمعان على عموده. فما إن وصلوا حتى لاحظهم القدّيس فأشار إلى بعض تلاميذه أن يدنوا السلّم من العمود لكي يصعد إليه الشيوخ الزائرون لأنه أراد أن يقبّلهم قبلة المحبة. كان الوقت صيفا والحر شديدا والمكان قفرا فتعجّب الشيوخ لا سيما وقد رأوا صبر القدّيس وترحيبه بالغرباء. لكنهم لم يشاؤوا أن يصعدوا إليه لأن قلوبهم نخستهم وشعروا بأنهم أساؤوا لأنهم ظنّوا في القدّيس سوءا، فقالوا :” كيف نصعد إلى رجل الله لنقبّله بشفاهنا التي تكلّمت عليه بالسوء؟!”لذلك تذرّع بعضهم بالشيخوخة وبعضهم بالمرض وبعضهم بالضعف ولم يصعد إليه أحد منهم. أما دانيال فتوسّل إلى رئيسه أن يسمح له بالتبرّك من القدّيس فسمح له. فلما صعد إليه باركه سمعان وسأله :” ما أسمك؟ فأجاب :” دانيال!” فقال له : “كن رجلا يا دانيال ! تقوّ واحتمل فإن مشقّات كثيرة بانتظارك. لكني أثق بالله الذي أنا خادمه أنه سوف يقويّك
ويكون رفيق دربك ! “ثم وضع يده على رأسه وصلّى وباركه وصرفه.
إلى أرض جديدة
بعد ذلك بزمن رقد رئيس الدير وأختير دانيال ليأحذ مكانه. لا نعلم كم بقي رئيسا. جلّ ما نعرفه أنه أخذ يعدّ العدة. منذ وقت مبكّر، لمغادرة الدير لأن رغبة قلبه كانت أن يتحول إلى حياة النسك. لهذا السبب عيّن الثاني بعده في الدير رئيسا وارتحل. توقف دانيال عند القدّيس سمعان أسبوعين وتبرّك منه. ثم إذ كان في نيّته أن يزور كنيسة القيامة في أورشليم لينصرف بعد ذلك إلى الصحراء الداخلية سلك الطريق إلى فلسطين.
لكنه فيما كان جادا في التوجه إلى هناك سمع أن الطريق خطرة لأنها تمر في النواحي التي يقيم فيها السامريون، وهؤلاء كانوا في ثورة ضدّ المسيحيين. ففكر دانيال في نفسه ما عساه يفعل. لم يشلأ أن بزغزغ نيّته، لذا قال حتى ولو متّ لا أتراجع لأنه شيء عظيم أن يموت الإنسان من أجل إيمانه بالرب يسوع.
وانتصف النهار ودانيال غارق في أفكاره. وإذا برلهب وقور كثيف الشعر يقترب منه. فتطلع دانيال إليه فرآه على هيئة القدّيس سمعان نفسه، فسأله الشيخ :” إلى أين أنت ذاهب يا بني؟ أجاب :” إلى الأرض المقدّسة، إن شاء الله! قال :” حسنا قلت إن شاء الله! ألم تسمع بأخبار المتاعب في فلسطين؟” أجاب :” بلى، لكن الرب معيني، لذا أرجو أن أعبر بسلام. حتى ولو كان عليّ أن أكابد الآلام فلا بأس لأنّا لله، وإن متّنا فإليه راجعون”. فحاول الشيخ أن يثنيه عن عزمه فلم يقتنع. فغضب وأشاح بوجهه عنه قائلا :” لست أطيق مجادلتك. ليست من عاداتنا! فسأله دانيال :” بمّ تنصحني أنت يا أبتي؟ أجاب :” بأن تذهب إلى القسطنطينية. هناك تجد مبتغاك، والرب الإله يرعاك!” عند هذا الحدّ من الكلام بلغ الرهبان ديرا وكان النهار قد أمسى، فسأل دانيال الشيخ أنبيت في هذا الموضع ؟ أجاب :” أجل! أدخل أنت أولا وأنا أتبعك! ” فدخل دانيال وانتظر فلم يوافه الشيخ. فخرج وبحث عنه فلم يجده. وسأل عنه فلم يقل له أحد إنه رآه. فتحيّر دانيال وأخذ يضرب أخماسا بأسداس.
بات دانيال ليلته في الدير. وفي نصف الليل إذ كان الجميع نياما جاء الشيخ في رؤيا وقال لدانيال :” اعمل ما أوصيتك به! ” ثم فارقه.
وفي اليوم التالي تساءل دانيال :” من يكون هذا الشيخ؟ أملاكا أم إنسانا ؟!” ولما لم يجد جوابا وجّه طرفه ناحية القسطنطينية وارتحل.
في ناحية أنابلوس
وصل دانيال إلى القسطنطينية فنزل في ناحية أنابلوس في كنيسة صغيرة تحمل أسم رئيس الملائكة ميخائيل. وأقام هناك إلى أن سمع ذات يوم قوما يتجاذبون أطراف الحديث باللغة السريانية، ففهم أن في الجوار هيكلا تسكنه الشياطين وهي تتسبّب في ترويع الناس وقد غرقت سفن بسببها، وبسببها تأذى الكثيرون حتى لم يعد إنسان يجرؤ علىالمرور من هناك. فاستفسر دانيال عن الموضع فدلّوه عليه، فلما بلغ دخل وهو يردّد المزمور القائل :” الرب نوري ومخلّصي ممن أخاف. الرب عاضد حياتي ممن أجزع؟”. وإذ أمسك بصليب كان في حوزته جال بالمكان وأخذ يسجد عند كل زاوية من زواياه مصليا.
وأسدل الليل ستاره.
واشتدّت العتمة ودانيال داخل الهيكل يصّلي، فإذا بحجارة تتساقط في المكان من حوله، وصخب كأنه لجمهور، يطرقون ويضجّون، ولكن لم يعترض أحد دانيال بأذى.
وانقضت الليلة الأولى وكذلك الثانية على هذه الحال دون أن يذوق القادم الجديد طعم النوم.
وفي الليلة الثالثة غفا.
للحال تراءت له أشباح كثيرة لها أشكال عمالقة، واخذ بعضها يقول له :” من غرّك أن تأتي إلى هذا الموضع يا حقير؟ أتريد أن تهلك يا شقي؟! هيّا بنا نجرّره خارجا ونلقيه في الماء!”. آخرون حملوا حجارة كبيرة ووقفوا عند رأسه يرومون تهشيمه .
واستفاق رجل الله من دون أن يستبد به اضطراب وأخذ يطوف بزوايا الموضع من جديد يصلّي ويرتّل ويقول للأرواح الخبيثة :” أخرجي من ههنا والا ألتهمتك ألسنة اللهب بقوة الصليب المحيي وأجبرت على الفرار!” لكن اشتد هياج الأرواح الشرّيرة وعلا صياحها. فلم يعرها انتباها، بل ذهب وأقفل على نفسه في المكان وترك نافذة صغيرة في الباب يستطيع من خلالها أن يكلّم الناس، ثم انصرف إلى النسك والصلاة والسهر.
ولم يطل بدانيال الوقت في ذلك الموضع ختى عمّ صيته بين الناس، فأخذوا يتدفقون عليه ، رجالا ونساء وأطفالا. وكان الجميع يتعجّبون ويقولون : انظروا كم أضحى هذا المكان هادئا! بعد أن كان مرقصا للأبالسة صار، بفضل صبر رجل الله هذا، مكانا يتمجّد فيه اسم الله ليل نهار.
عملاء الحسد
وكان على كنيسة رئيس الملائكة ميخائيل ععدا من الكهنة السذّج. هؤلاء حرك الأبالسة فيهم روح الحسد فجاءهم فكر يقول لهم :” ليس حسنا أن تتركوا الرجل يقيم ههنا. ها قد ذهب إليه العالم كله وأنتم متروكون ولا ما تعملون !” فاهتاج الكهنة وذهبوا إلى المدينة واشتكوا قائلين :” ها قد اتى إلينا رجل لا نعرف أصله، أقفل على نفسه بالقرب من كنيستنا، وجذب الكثيرين إليه، رغم كونه رجلا هرطوقيا، وهو سرياني اللسان ولا نعرف كيف نكلّمه !” فأجابهم الأسقف، وهو أناطوليوس البطريرك (449 -458 م) قائلا :” إذا كنتم لا تعرفون لغته ولا كلمتموه فكيف عرفتم أنه هرطوقي ! اتركوه بسلام، لأنه إذا كان من الله فسيثبت، وإذا لم يكن من الله فسينصرف عنكم من ذاته قبل ان تطردوه ! لا تكونوا عثرة لأحد ولا تتسبّبوا بفضيحة!” فعلى كلمة البطريرك عاد الكهنة إلى كنيستهم بسلام ولو إلى حين.ولكن لم تهدأ الأبالسة.
اجتمعت الأشباح على القدّيس من جديد بسيوف وهي تصرخ :” من أين جئت يا رجل. لأعط مكانا لنا لأنا نقيم في هذا الموضع من زمان، أم تريد أن نقطّع أطرافك تقطيعا؟!” ثم إذ دنت الشباح من القدّيس كلّم بعضها بعضا قائلا :” لا نقتلنّه بل نجرّرنه خارجا ونغرقنه في المياه كما أغرقنا السفينة !” ثم أخذت تتحرك من حوله كما لو كانت تريد الإمساك به وجرّه إلى الخارج بالفعل. فانتصب رجل الله وصلّى ثم قال للأبالسة :” الرب يسوع المسيح، مخلّصي، الذي وثقت وأثق به، هو يغرقّكم في أعماق الهاوية!”. ولما قال لهم هذا ولولوا بصوت عظيم وأخذوا يطيرون حول وجهه كأسراب الخفافيش، ثمأزّت أجنحتهم وخرجوا من النافذة الصغيرة خاسئين. ولم يستسلم الشيطان.
عاد إلى الكهنة، ضعاف النفوس، كهنه كنيسة رئيس الملائكة وأهاجهم من جديد فذهبوا إلى البطريرك وقالوا له :” ياسيد، إن لك سلطانا علينا! هذا الرجل المقيم في جوارنا لسنا نطيق بقاءه، فمّره أن يخرج من هنا لأنه دجّال!” فما كان من أناطوليوس البطريرك سوى أن أوفد ضابط الكنيسة العظمى برفقة شمامسة إلى القدّيس، فخاعوا الباب واقتادوه إلى البطريرك. فلما وقف القدّيس أمام البطريرك سأله هذا الأخير عن نفسه وعن إيمانه، ولما أجاب حسنا بوساطة مترجم، وقف أناطوليوس وعانقه وطلب منه أن يلازم الدار البطريركية إذ رأى فيه نعمة عظيمة.
ومرض البطريرك فطلب صلاة القدّيس، فصلّى لبقدّيس من أجله، وبنعمة الله شفاه. وإذ رغب البطريرك إلى رجل الله أن يقيم بجواره في أي دير يختاره لم يشأ بل قال :” إذا كنت تريد أن تسدي إليّ بخدمة فإني أسأل قداستك أن تعيدني إلى المكان الذي قادني الرب إليه أولا. فأمر البطريرك بإعادته إلى مكانه مكرما. أما الكهنة المفترون فشاء أن يلقي عليهم الحرم ولكن توسّط لديه القدّيس ورجاه ان يسامحهم. دامت إقامة دانيال في هيكل الأوثان تسع سنوات.
نحو السيرة العمودية
وحدث لخادم الله أن دخل مرة في عيبوبة وعاين عمودا شاهقا من سحاب السماء وعليه سمعان المغبوط محاطا بشبه ملاكين مجللّين بالبياض. وإذ بصوت سمعان يناديه قائلا له :” تعال إليّ يا دانيال !”. فأجاب :” يا أبي، يا أبي، كيف أقدر أن أرتقي إلى علوّك الشاهق؟ ” فأرسل سمعان الشابين قائلا لهما :” انحدرا وأتياني به!” فنزلا وأخذا دانيال ورفعاه إلى سمعان. فضمّه سمعان إلى صدره وقبّله قبلة مقدّسة. في تلك اللحظة بالذات، دعا آخرون سمعان للذهاب معهم فتبعهم فساروا به إلى السماء ودانيال وراءه على العمود مع الرجلين. وإذ بصوت سمعان يصدح في أذني دانيال :” اثبت وكن رجلا !” فكان الصوت في أذنيه كالرعد.
ولم تمض على تلك الرؤية أيام قليلة حتى وصل إلى القسطنطينية سرجيوس، أحد تلامذة سمعان، وأخبر عن رقاد معلمهز كان في حوزته معطف القدّيس الجلدي حمله بركة إلى لاون الأمبراطور. ولكن، حدث، بتدبير الله، أن الأمبراطور كان منهكا بشؤون الحكم فلم يتسنّ لسرجيوس مقابلته. وإذ انتظر طويلا على غير طائل قرّر الخروج إلى دير الذين لا ينامون. ولكن إذ كان على المسافرين إلى هناك أن يركبوا المياه، كان لا بد لهم أن يمروا بالقرب من أنابلوس. فلما بلغوا الموضع، سمع سرجيوس عن دانيال وكيف طرد الأبالسة التي اعتادت أن تروّع الناس وتغرق السفن العابرة في القناة، فتحرّك فلبه وسأل إذا كان بإمكانه أن ينزل إلى القدّيس ليتبرّك منه، فأجابه الجميع بالإيجاب لأنهم هم أيضا رغبوا في أخذ بركته.
ولما جاء سرجيوس إلى القدّيس استقبله هذا الأخير بالعناق، لا سيما بعدما عرف منه أنه تلميذ سمعان المغبوط.أخبره سرجيوس أن سمعان رقد، فردّ عليه دانيال بأن أطلعه على الرؤية التي كانت له. فتفرس سرجيوس فيه متعجبا ثم
قال له :” إذن إليك أرسلني الله لا إلى الأمبراطور !”. ثم أخرج المعطف الجدلدي وأعطاي إياه. فأخذه دانيال وضمّه إليه بدموع قائلا :” مبارك أنا يا الله، يا من تصنع كل شيء بحسب مشيئتك، يا من حسبتني في حقارتي أهلا للبركة التي حملها إليّ خادمك هذا !” في تلك الأثناء، تضجّر ركاب السفينة من تأخر سرجيوس وناداه أحد البحارة أن ينزل سريعا وإلا يتركونه وراءهم فأجابهم :” امضوا في سبيلكم، الله معكم ! أما انا فباق هنا لأن الله شاء فاقتادني من أب إلى أب !”.
ولازم سرجيوس دانيال إلى أن عاين في رؤية، ذات مرة، ثلاثة رجال قالوا له :” قل للأب دانيال أن زمانك، في هذه الكنيسة، قد اكتمل، فهيّا انصرف من ههنا وباشر ما أعده لك الله!”. فلما عاد سرجيوس إلى نفسه أخبر معلّمه بما رأى فأيقن دانيال أن ساعة دخوله الجهاد الأكبر قد دنت. مذ ذاك أرسل سرجيوس ليبحث له عن مكان مناسب لنصب العمود على إحدى الهضاب في الجوار، فيما أخذ مرقص، أحد أبناء القدّيس دانيال الروحيين، على عاتقه وتأمين حجارة العمود.
صاحب الأرض يحتجّ
وجهز كل شيء، فخرج المغبوط من منسكه أثناء الليلز ولما صعد على العمود صلّى هكذا :” أيها الرب يسوع المسيح، إني، باسمك القدّوس، أدخل في هذا الجهاد، فبارك قصدي وساعدني على إتمام سعيي”.
ولم يطل بقديسنا المقام حتى بلغ خبره جيلانوس، صاحب الأرض، وكان مقتدرا، فغضب غضبا شديدا وصعد إليه برفقة عدد من عمّاله وفي نيته أن يلقيه خارجا. أكثر تلك البقعة كان مزروعا كرمة. كان الجو صاحيا وموسم القطاف على الأبواب. فجأة تحركت الغيوم بسرعة وعصفت الأهوية ونزل البرّد وضرب عناقيد العنب وأوراق الكرمة فأتلفها. انذهل الرجال لهذا المنظر وبالجهد بلغوا العمود.
كلّم جيلانيوس المغبوط لقسوة. كان وقحا ولم يعتبر. ولكن أمام صمت القدّيس ووداعته شعر العمّال بنخس القلب فقالوا لجيلانيوس :” دعه وشأنه ولا تزعجه! العمود ، في كل حال، في طرف أرضك، ولا يعيق مزروعاتك في شيء !”. فأصرّ جيلانيوس على القدّيس أن ينزل ولو بضع درجاتز وكالحمل الوديع أخذ المعبوط في النزول. فلما رأه جيلانيوس قد فعل ووقع نظره على رجليه المنتفختين المتقرّحتين انعصر قلبه وركض ورجا المغبوط أن يعود إلى مكانه ويصلّي له. فباركه القدّيس وصحبه وعاد إلى عموده فيما احدر جيلانيوس وعمّاله من هناك بسلام.
ولم تمض أيام معدودة على ما حدث حتى صعد صاحب الأرض إلى دانيال من جديد، ولكن، هذه المرة، لأنه رغب إليه بإصرار ان يسمح له بإقامة عمود أكبر وأوسع من الذي كان القدّيس واقفا عليه. فقبل رجل الله العطية وشكر وبارك. ولما زار أحد الغيارى دانيال بعد أيام احتج لديه أنه قبل عمودا من رجل وقح عامله بفظاظة، فأجابه القدّيس:” قبلته منه لأني لم أشأ أن أجرحه!”.
شاب فيه روح نجس
وقدم إلى القدّيس رجل إسمه سرجيوس من بعيد، من نواحي تراقيا. هذا كان له ابن شاب يدعىيوحنا فيه روح شرّير. فلما بلغ سرجيوس العمود ألقى بنفسه أمام القدّيس باكيا منتخبا صارخا :ط يا خادم الله، إرأف بابني، فإن فيه روحا نجسا يعذّبه . ومنذ ثلاثين ييوما والروح الخبيث يتلفّظ باسمك، وقد مضى علينا ثمانية أيام ونحن نبحث عنك. وها قد آتينا إليك فأعنّا !”. وكان جيلانيوس وآخرون واقفين، فلما رأوا منظر الصبي وأبيه انفجروا باكين . فقال القدّيس لسرجيوس، وكان هذا الأخير شيخا :طكل من يسأل بإيمان يعطيه الله ما أراد. فإذا كنت تؤمن أن الله، بوساطتي أنا الخاطىء، سوف يشفي الصبي، فبحسب إيمانك يكون لك !”ثم أشار إلى تلميذه أن يعطي الصبي بعضا من الزيت المقدّس ففعل. فاهتاج الروح الخبيث فيه وخبطه أرضا فأخذ يتدحرج. ثم صار يلعن ويسب واعدا بالخروج منه ولكن بعد اسبوع !.
ويذكر أن القدّيس كان قد أخرج روحا خبيثا، قبل حين، من أبنة رجل أسمه كيروس، قنصلا سابقا. ومنها أيضا لم يخرج الروح إلا بعد أسبوع.
وسمع الأمبراطور عن القدّيس وكان يسأل صلاته وبركته عن بعد ثم صار يأتي إليه ويستشيره في شؤون الحكم. ورغب الأمبراطور بسيامة القدّيس كاهناً واستطاع البطريرك جنّاديوس أن يقنعه بضرورة سيامته وحصل الأمر فيما بقي القدّيس على عموده.
وأخيراً رقد القدّيس سنة 493 عن عمر 84 سنة.

القدّيس لوقا
عاش لوقا في القسطنطينية، واشترك كجندي في الحرب البلغارية.
شهد بأم العين الآلاف يموتمون. رأى في نجاته إصبع الله. زهد بالعالم وأباطيل العالم. سلك في النسك والصلوات سنوات. عطفه على المساكين والمحتاجين كان بلا قرار. انتهى على عمود قرب خلقيدونيا. أمضى عليه خمسة وأربعين عامًا. صار كملاك أرضي. أعطاه الله موهبة التبصّر. تعاطى شفاء المرضى. كان رؤوفًا بالناس، لا يستهين بأحد. يهتم بتعزية الجميع يوحي بالسلام ويدعو إلى التوبة. رقد في سن المائة ويزيد.

الطروبارية
+ صرت للصبر عموداً، وللآباءِ القدماءِ ضارعتَ، مبارياً لأيوب بالآلام وليوسف بالتجارب، ولسيرة العادمي الأجساد وأنت بالجسد. فيا أبانا البارَّ دانيال توسّل إلى المسيحِ الإله، أن يُخلّص نفوسَنا.

GoCarch