١٨ آذار – القدّيسين الشهيدين طروفيموس وأوكاربيون – أبينا الجليل في القدّيسين كيرللس الأورشليميّ

September-4-2018

القدّيسين الشهيدين طروفيموس وأوكاربيون

كان هذان القدّيسان في عداد حرس حاكم بيثينا زمن الإضطهاد الذي جرى بأمر الأمبراطور مكسيميانوس. وكانا قد أظهرا كرهًا شديدًا للمسيحيّين حتّى أوكل إليهما رئيسهما مهمّة مطاردة المؤمنين وتسليمهم إلى أفظع التعذيبات إن لم يذعنوا لأمر الأمبراطور. فلمّا كان يوم خرجا فيه في إحدى هذه المهمّات عاينا على طريقهما نورًا هائلاً ينحدر من السماء وسمعا صوتًا يدعوهما إلى الكفّ عن اضطهاد المؤمنين بيسوع ويطلب منهما أن يتوبا ويعلنا إيمانهما. هزّت الكلمات هذين الشابين فلمّا دخلا المدينة ذهبا مباشرة إلى السجن وحرّرا المساجين المسيحيّين وأخبروهم ما حصل لهما على الطريق فلتقيّا التعليم وأعلنا إيمانهما واعتمدا وأذاعا في المدينة وسط الوثنيّين اسم يسوع فاعتراهم الذهول والدهش.

بلغ أمر إيمانهما حاكم بيثينيا فأسرع إلى نيقوميذية وأحضرهما لديه وسألهما عن إيمانهما وحاول دفعهما إلى إنكار المسيحيّة لكنه فشل في ردهما إلى الوثنية عند ذلك أمر بإحراقهما.

أبينا الجليل في القدّيسين كيرللس الأورشليميّ

كيرلس الاورشليمي شخصية كنسية كبيرة من القرن الرابع، وجّه عمله نحو التبشير، فاضحى مدرسة في التعليم المسيحي والارشاد.

لا يُعرف مكان وزمان مولده، الا انه يرجح انه ولد في اورشليم حوالي عام 315م. الشيء الاكيد انه اصبح اسقفا على اورشليم سنة 349م، وقد رسمه متروبوليت قيصرية فلسطين اكاكيوس الاريوسي، الذي اعتقد بانه كان على مذهبه. الا ان الخلاف نشب بينهما بعدما دافع كيرلس عن مجمع نيقية وعقيدته.

كان أبواه تقيّين غرسا في قلبه الإيمان المستقيم وحبّ الصلاة والكتب المقدّسة. لفت كيرلّس انتباه مكسيمس أسقف أورشليم فرسمه كاهنًا عام 344 ووكل إليه تعليم الموعوظين وتهييئهم للمعموديّة المقدّسة. انتُخب أسقفًا على أورشليم عام 350. نفي ثلاث مرّات بعد أن اتّهمه الهراطقة الآريوسيّون. شهد له عموم الأساقفة المجتمعون في المجمع المسكونيّ الثاني المنعقد في القسطنطينيّة بأرثوذكسيّته بالقول: “نحن نقرّ ونعترف بأنّ كيرلّس الحبر الجليل الموقّر قد جاهد الجهاد الحسن ضدّ الآريوسيّين في أوقات وأماكن مختلفة”. توفّي عام 387 بعد حياة أسقفيّة دامت 38 عامًا قضى منها 16عامًا في المنفى بعيدًا عن كرسيّه. تعيّد له الكنيسة في الثامن عشر من آذار.

ذاق كيرلس اثناء اسقفيته مرارة النفي المتكرر. ففي عام 357م عقد اكاكيوس مجمعا في اورشليم وتمكن من نفيه الى تراسيوس. الا انه اعيد الى اسقفيته بعد عام بقرار من مجمع سليفكيا. وفي عام 360م تمكن اكاكيوس مجددا من نفي كيرلس، وظل منفيا حتى اعتلاء يوليانوس عرش الامبراطورية عام 362م. الا ان النفي الاطول كان عام 763م بامر من الامبرطور فالنس والذي دام احد عشر عاما اي حتى عام 378م. وبذلك يكون كيرلس قد قضى اربعة عشر عاما في المنفى، اي حوالي نصف مدة اسقفيته.

شارك كيرلس في المجمع المسكوني الثاني المنعقد في القسطنطينية عام 381م. ويرجح انه رقد بالرب عام 387م. تعيّد له الكنيسة المقدسة في 18 آذار.

لا يعدّ كيرلّس من بين أعلام اللاهوت الكبار أو أصحاب المواقف العقائديّة البارزة. فكان خير ما تجلّى فيه العظات التعليميّة التي ألقاها في زمنَي الصوم والفصح المجيد لطالبي المعموديّة (الموعوظين)، وللمعمّدين الجدد (المستنيرين). إلى جانب هذه العظات التعليميّة خلّف كيرلّس عظة في شفاء المخلّع، ورسالة وجّهها إلى الإمبراطور كونستنسيوس يطلعه فيها على أعجوبةٍ ظهر فيها الصليب متلألئًا في سماء أورشليم ما بين القبر المقدّس وجبل الزيتون. لدينا 24 عظة تعليميّة يبدو أنّ كيرلّس ألقاها قبل عيد الفصح وبعده عام 348. أمّا السبب الدافع لإلقائها في هذا الزمن من السنة فهو أنّ المعموديّة كانت تتمّ في موسم الفصح لارتباط المعموديّة بموت الربّ يسوع وقيامته.

يعتبر كتابه “التعليم الديني” وهو مؤلف من 42 تعليما، القاها في كنيسة القيامة، من اهم الكنوز المسيحية، وقد حُفظ هذا الكتاب في عدد كبير من المخطوطات نظرا لاهميته ان من ناحية التعليم والارشاد او من الناحية الروحية. ويمكننا ان نقسم الكتاب الى قسمين:

– القسم الاول ويمكن تسميته “تعليم الموعوظين” وهو عبارة عن 91 تعليما، وهو موجه الى المزمعين ان يستنيروا (اي الذين سوف يتقبلون المعمودية) ويتضمن هذه الجزء مخططا عن العقائد الاساسية، وقوانين تتعلق بحياة المؤمنين وتفسير لاهوتي لدستور الايمان الذي سوف يتلونه في المعمودية.

– القسم الثاني ويمكن تسميته “التعليم الاسراري” ويتضمن 5 تعاليم موجهة الى المستنيرين حديثا (اي الذين تقبلوا المعمودية) وهذا الجزء هو شرح للاسرار. التعليم 20 و21 هو لسر المعمودية، 22 لسر الميرون، 32 لسر الشكر، 24 شرح القداس الالهي.

يعرض كيرلّس في إحدى عظاته للإيمان الأرثوذكسيّ بألوهة السيّد المسيح، مردّدًا تعابير قانون الإيمان الذي أُقرّ في المجمع المسكونيّ الأوّل، فيقول: “آمنوا بابن الله الوحيد الأحد، ربّنا يسوع المسيح، إله من إله، حياة من حياة، نور من نور، مماثل للآب في كلّ شيء”. ويفسّر كيرلّس قصد الكنيسة من قولها إنّ ابن الله وُلد من الآب قبل كلّ الدهور، فيضيف قائلاً: “في الولادة الجسديّة الأب يسبق الابن زمنيًّا، ولكنّ الابن مولود من الآب قبل كلّ الدهور ولا فارق زمنيّ بينهما. الولادة الجسديّة تعني أنّ المولود الجديد قاصر وهو بحاجة إلى عناية لينمو ويكبر. ولكنّ ابن الله الوحيد ولد من الآب كاملاً”. فإذا كان الله أزليًّا من دون بداية وليس ثمّة وقت يفصل بين وجود الآب ووجود الابن، فهذا يعني أنّ ابن الله أزليّ وهو بالتالي إله من إله.

ويؤكّد القدّيس الأورشليميّ أيضًا على ألوهة الروح القدس، وذلك للردّ على القائلين بدونيّة الروح القدس أمام الآب والابن، فيقول: “الروح القدس وحده مثل الابن يرى الآب وجهًا لوجه. الابن الوحيد يشترك في ألوهة الآب مع الروح القدس”. والاعتراف بالروح القدس إلهًا له علاقة بالخلاص، فكيرلّس يذكر بأنّ “الخلاص بالنسبة إلينا يأتي من الآب والابن والروح القدس، ثالوثًا ذا جوهر واحد، متناغمًا وغير منفصل”. هذا الكلام الذي تفوّه به القدّيس كيرلّس ردّده بعده المجمع المسكونيّ الثاني الذي أضاف على قانون الإيمان البند المتعلّق بالروح القدس موضحًا حقّيّقة السجود للروح القدس مع الآب والابن.

تحتّل المعموديّة عند كيرلّس المكانة الأولى في تعليمه، وذلك أمر بديهيّ إذ إنّ أغلب عظاته موجّهة إلى المقبلين على المعموديّة. وهو يتوسّع في شرحه لمعنى المعموديّة كما عرض له القدّيس الرسول بولس في رسالته إلى أهل رومية، ف”جرن المعموديّة صورة للقبر الذي دُفن فيه يسوع بعد أن أُنزل عن الصليب. وطلب من كلّ منكم أن يعترف بإيمانه بالآب والابن والروح القدس ثمّ نزل في الماء ثلاث مرّات وصعد منها في شبه المسيح الذي ذاق الدفن ذا الثلاثة الأيّام”. إذًا المعموديّة موت ودفن وقيامة من بين الأموات. لهذا نرى القدّيس الأورشليميّ يشدّد في مكان آخر على رمزيّة الموت والحياة في مياه المعموديّة، فيشبّهها بالأم التي تعطي الحياة: “إنّكم دُفنتم وولدتم في آن معًا. مياه المعموديّة قبر وأم في آن معًا. كتب سليمان قائلاً: للولادة وقت وللموت وقت (الجامعة 3 :2). ولكن بالنسبة إلينا عكس ذلك صحيح، وقت الموت هو نفسه وقت الولادة”. وكأنّ كيرلّس هنا يستعيد ما قاله بولس الرسول الذي يؤكّد أن لا سلطان للموت على الإنسان بعد أن يعتمد، ذلك لأنّ الإنسان يموت مرّة واحدة في المعموديّة، ويحيا إنسانًا جديدًا على صورة المسيح الناهض من بين الأموات.

يؤكّد كيرلّس في مقدّمته على كون المعموديّة تُمنح مرّة واحدة في الحياة، فيقول: “لا يمكن تقبّل غسل الميلاد الثاني (يقصد المعموديّة) مرّتين أو ثلاثًا. إنّ ما تفقده مرّة لا يمكنك استعادته، لأنّ الربّ واحد، والإيمان واحد، والمعموديّة واحدة”. كما يسعنا الاستنتاج من المقدّمة أنّ كثيرين ممّن كانوا يُقبلون على التنصّر آنذاك إنّما كانوا يُقبلون لغايات مختلفة سياسيّة، أو اجتماعيّة، أو وظيفيّة، بعيدة عن روح المسيحيّين الأوّلين واقتناعاتهم. ولهذا يحذّرهم كيرلّس من الإقبال لأسباب غير محمودة، فخطأ كهذا من شأنه أن يفسد المعموديّة “فالماء يقبلك ولكنّ الروح لن يقبلك”.

ويميّز كيرلّس بين معموديّة يوحنّا والمعموديّة في المسيح، فيقول: “لا يظنّن أحد أنّ المعموديّة ليست إلاّ نعمة مغفرة الخطايا والتبنّي الإلهيّ، مثل معموديّة يوحنّا الذي كان يمنح مغفرة الخطايا. أمّا نحن فنعلم أنّ المعموديّة، وإنْ كانت لتطهير الخطايا والمشاركة في موهبة الروح القدس، إنّما هي أيضًا صورة لآلام المسيح فينا”. وهنا يستشهد كيرلّس برسالة القدّيس بولس إلى أهل رومية: “أوَتجهلون أنّا، وقد اعتمدنا في يسوع المسيح، إنّما اعتمدنا في موته، فدُفنّا معه في المعموديّة لنموت فنحيا” (6، 3-4). من هنا، يؤكّد كيرلّس التعليم الكنسيّ في شأن المعموديّة من حيث إنّها تمنح مغفرة الخطايا والتبنّي، إلاّ أنّها أصلاّ المشاركة في موت الربّ وقيامته والحياة الجديدة معه.

ويؤكّد القدّيس كيرلّس على أهمّيّة سرّ الشكر (المناولة)، فيركّز على حقيقة حضور الربّ في القرابين المقدّمة، وتاليًا على حقيقة اتّحادنا به من خلال تناولنا جسده ودمه: “لنتناول جسد الربّ ودمه بثقة. لأنّنا أعطينا جسده في شكل الخبز ودمه في شكل الخمر. وإذ نتناول جسده ودمه نصبح معه جسدًا واحدًا ودمًا واحدًا. هكذا نصبح حَمَلَةَ المسيح”. ويستشهد قدّيسنا ببطرس الرسول في رسالته الثانية (1: 4) بأنّنا نصير “شركاء الطبيعة الإلهيّة” بواسطة المناولة. ويشدّد كيرلّس على أهمّيّة الصلاة من أجل المرضى والمضنيّين والمسافرين والموتى الراقدين، ذلك أنّنا شركاء معهم في جسد المسيح الواحد. ويقول القدّيس عن الراقدين: “كذلك نحن عندما نتضرّع من أجل الراقدين… نقرّب المسيح الذي مات ليمحو كلّ إثم فيصفح به إلهنا الرحيم عنّا وعنهم”.

يقول القدّيس كيرلّس: “إنّ الله يهبك النعمة، وشأنك أن تتلقّاها وتحفظها”. يعطي الله النعمة مجّانًا، إلاّ أنّه ينتظر جواب الإنسان الذي له ملء الحرّيّة بأن يقبلها أو يرفضها. شأننا، نحن المؤمنين بقوّة النعمة التي حزناها في المعموديّة، أن نحيا ونتجدّد فنتوب إلى الله، وهكذا نكون قد حفظنا الوديعة، أي النعمة.

يدعو كيرلّس سرّ الميرون المقدّس ب”مسحة المسيح” التي بها ينال المؤمنون مواهب الروح القدس، فيقول: “ها إنّكم اعتمدتم في المسيح ولبستم المسيح (غلاطية 3، 27)، فأصبحتم على مثال صورة المسيح ابن الله (رومية 8، 29). إنّكم أصبحتم مُسحاء بتلقيكم ختم الروح القدس”. ثمّ يتابع قائلاً في العظة عينها: “بهذا الدهن (الميرون) مُسحتَ رمزيا على جبينك وسائر حواسّك. وفي الوقت الذي يُمسح فيه جسدك بالدهن المنظور تُقدَّس نفسك بالروح القدس المحيي”. ويؤكد قدّيسنا أخيرًا أنّ الإفخارستيّا تكمل الدخول إلى الكنيسة، فيدعو المعمدين إلى المشاركة في جسد المسيح الحقيقيّ ودمه الحقيقيّ المتاحَين لهم في القداس، فيقول للمشكّكين في هذه الحقيقة: “لقد سبق للمسيح في عرس قانا الجليل أن حوّل الماء إلى خمر بفعل إرادته، أفلا يكون جديرًا بالتصديق عندما يحوّل الخمر إلى دمه؟”.

ينقل إلينا القدّيس كيرلّس الأورشليميّ الإيمان حياةً نحياها في سبيل الوصول إلى الخلاص. التعليم، بالنسبة إليه، ينبغي ألاّ يتوقّف عند الكلام وترداده بببغائيّة مملّة وغير فاعلة. لذلك ينبّه سامعَه إلى كون المعموديّة قد زرعت فيه النعمة التي عليه أن يسقيها بسلوكه الطريق المستقيم وتنفيذه لوصايا الربّ وتعاليمه. ويسعنا القول أنّ وصيّته لتلاميذه ولنا شخصيًّا هي قوله بإيجاز وافٍ: “أُذكر الأشياء التي قيلت، لأنّنا نقولها، ليس فقط لكي تسمعها، بل لكي تحفظها بالإيمان”.

الطروباريّة

+ لقد أظهرتك أفعال الحقّ لرعيتك، قانوناً للإيمان، وصورة للوداعة ومعلماً للإمساك، أيّها الأب رئيس الكهنة كيرلّس، فلذلك أحرزت بالتواضع الرفعة وبالمسكنة الغنى، فتشفع إلى المسيح الإله أن يخلص نفوسنا.

GoCarch