الغني الجاهل – المطران بولس يازجي

November-4-2018

لوقا 12، 16-21
الأحد التاسع من لوقا
“يا نفسُ استريحي وكلي واشربي وافرحي…”

لا يبدو هذا الغني، من الوهلة الأولى، جاهلاً، رغم ما نعته به الكتاب. فالرجل يملك خيراتٍ كثيرة ويحسنُ إدارتها. ولما أخصبت أرضه وجد حلولاً على الفور. إن إنساناً كهذا قد يكون المثل الأعلى للعديدين منّا في حسن جمع الخيرات ومضاعفتها… لكنّه في نظر الكتاب صار جاهلاً؛ فالسؤال المحيّر هو لماذا سُمّي جاهلاً؟

لقد دُعي هذا الغني جاهلاً لسببَين:

أوّلاً: أنّه لم يكن يعرف أبداً وعلى الإطلاق كيف تعيش نفسه. فوصفه لقوتِ نفسه يدلّ على غباوة. لقد خاطب ذاته قائلاً: يا نفسي كلي واشربي… لك خيراتٌ، وهذه ليست طعامَ النفس لأنّه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان! لم يدرك هذا الغني ما هو الطعام الحقيقيّ الذي كان عليه أن يشتريه بتلك الخيرات التي تراكمت لديه.

والسبب الثاني، أنّه بينما كان يحسن جمعَ خيراته وتخزينها لسنين عديدة، كان يجهل الأهمّ أي طريقةَ استخدامها. لقد أحسن بالتعب وأساء بالربح. أحسن بالعمل وأساء بالثمر.

وهل يمكن للخيرات الدنيويّة أن تكون مأكلاً ومشرباً وفرحاً للنفس؟ الجواب بالطبع نعم! وهذه هي غاية كلّ تلك الخيرات، ولكن كيف؟

عندما تخزّن الخيرات للذات تفسد. الذهبيّ الفمّ يشبّه الخيرات الدنيويّة بذلك “المنّ” الإلهيّ الذي كان الله يرسله كلّ يوم للشعب التائه في البرية، وكان كلّ إنسان يأكل منه لحاجته. ولما طمع البعضُ وأرادوا جمع كميات منه وتخزينَها وجدوا أنّها كانت تفسد على الفور. المال حين يجمّع ينتن وحين يبدّد ويستخدم بالشكل الحسن يُثمر.

يصير المال والغنى وكلّ الخيرات مأكلاً وفرحاً للنفس بشرطَين، أولاً تكون سبباً لبناء جسور من العلاقات الطيبة ولتمتين المحبّة مع الآخرين. المال أقوى سلاح للاتصال بالآخرين ولكن بمحبّة. الغني أقدر من الفقير على الحبّ لو عرف استخدام ماله. لا تحيا النفس من الخيرات، ولكن تحيا على العلاقات الخيِّرة.

وثانياً، عندما نستخدمها بشكر لله. عندما نتلقى خيرات وافرة علينا أن نشكر واهبها. أليستْ كلّ الخيرات دليلاً على العناية الإلهيّة؟ علينا دائماً أن نحوِّل الخيرات إلى قرابين شكر. لهذا كان الناس في العهد القديم يعبّرون عن شكرهم بتقديم الأبكار من الخيرات ومن الأولاد لله، واهبها؛ وكذلك العُشور من كلّ شيء. في سفر الرؤيا يُوبَّخ ملاكُ اللاذقية لأنَّه غَنِيَ فاستغنى. لا تعود الخيرات طعاماً للنفس عندما تجعلنا نستغني عن الله في خيراته عوض أن نشكُره عليها.

“الخير” في “الخيرات” هو تحويلها إلى قربان محبّة للقريب وتسبحة لله فتنعم النفس وتستريح.

آميــن

من كتاب سفر الكلمة- الجزء الثاني

للمطران بولس يازجي

GoCarch