مرور السنة السابعة لانتقال البطريرك إغناطيوس الرابع

December-5-2019

السنة السابعة

تمرّ سنة تلو الأخرى، لكن الذكرى تبقى بحلاوةِ مُرِّهَا! نعم، كيف لا نذكر “المثلث الرحمة، البطريرك إغناطيوس الرابع” في مرور السنة السابعة لانتقاله إلى جوار ربِّه ليشاركنا الصلاة مع الملائكة والقديسين؟! إنه إنسان تمرَّس على الإيمان وعِشْرة الرب، فصاغ هذه العِشرة نهجاً فكرياً وتربوياً ولاهوتياً. الكنيسة بالنسبة إليه ليست مؤسسة ولا مدرسة، بل إنها عائلة تصوغ البيت والمجتمع والإنسان.

لقد أعطانا يسوعُ نمطَ حياةٍ تُميِّزُنا وتسمو بنا إلى النقاء والقداسة، وقد عبّر غبطته عن هذا بقوله: “أجسر أن أقول إننا في كثير من الأحيان ننجرف في العالم، ونخون ربَّنا، ونجعل مِن سواه ربَّاً لنا. المسيحية ليست إمبراطورية وليست جيشاً ولا سلاحاً، وليست أمجاداً كما يفهمها الناس. المسيحية عمقٌ ونوعية وأصالة وصفاء. والإنسان الذي يخاف مِن أن يكون مجدُه في نوعيته وفي صفائه، هو إنسانٌ من الصعب عليه أن يكون مسيحياً”.

لقد اختبرَ إغناطيوسُ الرابع عِشرةَ القديسين فقال فيهم: “قامت الكنيسة على أكتاف القديسين. والقديس ليس إنساناً بلا خطيئة، بل إنسان يحمل المسيح في قلبه ويقدّم له كلَّ شيء، وهو سيِّدُ حياتِه. ولو حاول الإنسان أن يفحص قلبَه قليلاً ويتساءل: أنا لمن أخضع؟ وأين مكان المسيح في هذا العالم؟ المسيحي الحقيقي يعطي قلبه أولاً للمسيح وكلُّ شيءٍ يُزادُ له. أما الشيطان فيخدع الإنسان ليكون المسيح في المرتبة الثانية”.

نعم، لقد اعتمر المسيحُ قلبَه فأتت كلماته صادقة مؤثّرة، فلا أنسى ذاك المنظر لسيدة مسلمة أتت لزيارته وبصحبتها كنَّتها، وفيما غبطتُه يحدّث حَمَاتها أخذت تبكي، فسألها: “خيراً يا بنتي؟!”. أجابت: لا أعرف، إن كلماتك مؤثرة ووجهك مشرق، لهذا تأثرت؛ فتجاوب مع الأمر بابتسامة دون تعليق.

كانت العائلةُ موضوعَ المَجمع المقدّس لهذه السنة، ما يجعلني أتطرّق إلى أهميّة العائلة في فكر غبطته، وكم كان تأثير عائلته عليه، وبخاصة والده “المعلّم” أسعد. كنّا، إلى حدّ ما، عائلةً حقيقيّةً: كنا نلعب في البيت، نصّلي في البيت، كنا نفعل كلّ شيء في البيت. كان غنانا الحقيقي في الترابط العائلي، الذي وَحَّدَنا. كنّا متحدين بشكل كبير جدّاً، وكان رباطُ محبّةٍ عميقةٍ يجمعُنا. يقول غبطتهُ: “كان أبي أستاذي الأول، كان يعلّمني كل شيء. أنا مدين له بالكثير، فعلاً بالكثير”. ويضيف: “وُلدتُ في الكنيسة بشكل طبيعي، فالانتماء إلى الكنيسة كنّا نعيشه بكل سعادة في العائلة، وكان الأمر خبرة حياة يومية، كانت الكنيسة بالنسبة إلينا، حضوراً دائماً وواقعاً ثابتاً”.

بعد دراسته وخبرته اللاهوتية والتربوية كُوِّنت عنده رؤية جليّة إلى العائلة، حتى أنه كان يردّد: من لا يفهم العائلة لا يفهم الكنيسة، “فالكنيسة هي أُسرة فيها الكبير والصغير والطِبَاع المختلفة والتنوّع، وهناك رباط يتجاوز الطبائع والأجيال والأعمار. وإذا كنّا لا نعرف ذلك نكون لا نعرف الكنيسة. وعندما نذكر الكنيسة نذكر الأُسرة: الله الأب، الابن، الأخ. وهذه اللغة ليست مستعملة من طريق الصدفة، بل تعني أنك لا تستطيع أن تكون أرثوذكسياً صحيحاً في نظري أنا، إلّا إذا كان عندك “ناس”. نقول: أبونا، أبي، أمي، أختي وأخي، وهذا يعني أننا نصنف الجميع أخوة لنا”. يضيف غبطته: “في الكتاب المقدس نجد التعابير العائلية مبثوثة من أوّله وحتى آخره، فنسمع كثيراً كلمة “أخ” وكثيراً كلمة “ابن” وكلمة “أب”، وكأنّ الصورة العامة التي سنعطيها للمجتمع البشري هي الصورة التي تُعطى عادة في الأسرة، والتي يُعتبر فيها كلُّ عضوٍ مرتبطاً بالآخر”. ثم يفنّد غبطتُه: “… والآن لنلتفت إلى الثالوث الأقدس. الآب يتجه نحو الابن، والابن يتجه نحو الخليقة. في العائلة يحدث الشيء ذاته. الأب والأم يتجهان نحو الابن. من هنا تصبح أربعة عناصر في العائلة: الكنيسة، الأب، الأم والابن. وما هو خيرٌ للعائلة هو خيرٌ للعناصر الأربعة وليس لواحد فقط. ويصبح الخطر كبيراً عندما يستأثر الأشخاص ببعض الأمور ويتناسى الباقين”. ويثبّت غبطتُه الفكرة: “قال الآباء أيضاً إن العائلة هي الكنيسة المصغّرة لأن فيها يرى الطفل خليقة الله، يراها في أمه وأبيه وإخوته. وكلّ الناس يعرفون أن النواة الأولى لشخصية الطفل تنمو في العائلة. إذن، هناك ينشأ إيمانه وكفره وكل شيء. هذا يجعل العائلة جماعة مسؤولة. وعندنا الشعور اليوم أن العائلات تستعفي شيئاً فشيئاً من مسؤولياتها في التربية”.

ركّز غبطته على دور التربية في العائلة والمؤسسات الكنسية: “يسعدنا أن المدارس أصبحت اليوم تعي ضرورة حضور الأهل، وأن التعاون بين المدرسة والأسرة هو تعاون ضروري. الواقع أنّ على الأمهات والآباء أن يعرفوا أن أولادهم يلاحظون كل كلمة وكل حركة منهم، إنهم يلاحظون حتى النظرة من الواحد نحو الآخر، وهذه ناحية من النواحي التي تستدعي تضحية من الآباء والأمهات أمام الأولاد، فلا يمكنك أن تعيش لنفسك بل يجب أن تعيش لهم. ولكي تربي الأولاد يجب أن تربي نفسك قبل كل شيء”. ويضيف غبطته: “إننا، نحن الأرثوذكس، نتكلم كثيراً عن المحبة، والمحبة ليست عندنا كلمة، إنّها نهج، إنها برنامج يجب أن نقوم به، وإلا ستكون المدرسة فاشلة. لأن المدرسة ليست تلقينية تدريسية فقط، لكنها قبل كل شيء تصوغ كائناً بشرياً، ولذلك لا يمكنها أن تكون بدون أساس. الأساس الأرثوذكسي هو أن تكون المحبة نهجاً يُعبَّر عنه من خلال كل شيء. والمحبة لا شروط لها”.

إنّ الخروج عن هذا المفهوم، الذي أدرَكَه المثلثُ الرحمة، هو نقضٌ للصلاة الوحيدة التي علَّمنا إياها يسوع: “أبانا الذي في السموات…”، فهذه الصلاة هي القاعدة لحياة الكنيسة والتعامل في ما بين أعضائها، التعامل المبني على المحبة وإدانة الخطيئة لا الخاطئ، فكلُّنا خطأة وتعوزنا رحمةُ الله. على هذه القاعدة أدار غبطته شؤون الكنيسة، على قاعدة السلام والوحدة، ليحافظ على عائلة الله.

ليكن ذِكره مؤبداً.

 

GoCarch